إذا صرفنا النظر عن حالات نادرة، سنجد مصطلح"العمدة"في الثقافة الإسلامية والشعبية أحد المصطلحات المستهلكة بإفراط بين أعالي الطبقات وأدناها، بين الفقهاء والمؤلفين والتجار إلى الفلاحين وعمال النظافة. ربما كان للمؤلفين على وجه الخصوص عذر في تقليد بعضهم، إذ لا تتوافر عندهم محركات البحث كما هي عندنا اليوم، فالذي يطلق لقب"العمدة"على مؤلفه قد لا يدرك أن عشرات قبله كانوا سبقوه إلى المصطلح الآسر للباحثين عن تفخيم منجزاتهم، حتى زخرت المكتبة الإسلامية بكتائب"العمد"في شتى الفنون، فهناك كتب لا تحصى تحت مسمى العمدة بالتعريف، وأخرى منكّرة، يضاف إليها ما تيسر من المجالات كمثل عمدة الأحكام، وعمدة الفقه، وعمدة القارئ، والعمدة في الفقيه، وعمدة الساري... وغيرها. وإذا غدا المصطلح مستهلكاً إلى هذا الحد بين الفقهاء وعلماء اللغة الذين كانوا أجدر بامتلاك البديل عنه، فإنه من غير المستغرب أن يظل بين العامة في القديم والحديث أكثر رواجاً وتداولاً. حتى إن كاتباً عربياً سخر من هذه الشعبية لمصطلح العمدة بين مختلف الطبقات، وقال:"إنه يعكس عقلية العربي المهووس بالعظمة"، بل إن صحيفة الصباح العراقية سألت لاعباً حاورته عن أحب الألقاب إليه، فأجابها على الفور"لقب العمدة". ومع ازدهار ثقافة التعميد عند أتباع الشريعة النصرانية حتى اليوم، إلا أن الأخرى الإسلامية المتفقة معها لفظاً والمختلفة معنى على الساحة العربية الشعبية أخذت في الأفول والتولي، لدى مقارنتها بعصور النهضة الأولى في الستينات في أرياف مصر، ما ترجمته أعمال أدبية وروايات، أخرج بعضها بعدُ أفلاماً سينمائية، أخذت طابع النقد والسخرية من هذا"المخلوق"العمدة المستبد. العمدة في الرواية المصرية والسعودية ولدى المقارنة بين صورة"العمدة"في الذهنية المصرية والأخرى السعودية نجده في الأولى لا يكاد يخرج عن الصورة السلبية وبشكل خاص في الأعمال الأدبية، كما يقول الناقد المصري الدكتور حسين محمد علي محمد الذي اعتبر الرواية المصرية التي اتخذت من القرية فضاءً لأحداثها وشخصياتها اهتمت بتصوير شخصية"العمدة"، فهو ممثل السلطة التنفيذية، والنائب عنها في إدارة القرية، والعمدة - في الواقع -"شخصية لها حضور مؤثر وفعّال بالنسبة للإدارة والناس على السواء، فالإدارة تلجأ إليه لتلبية إرادتها، وهو يلجأ إليها لتلبية رغباته، ولذا فإنه لا يستطيع الانفصال عنها أو التمرد عليها، إلا إذا أوتي خصائص معينة"، مشيراً إلى نموذج لهذه الفئة من"العمد"بما قدمه الروائي ثروت أباظة من صورة نموذجية للعمدة في روايته"هارب من الأيام"، كاشفاً عن شخصية"حاكمة، متسلِّطة، مرتشية، تحكم بالهوى، وتأخذ من الدين قشوره وظاهره". لكن حسين أشار إلى أن تلك الصورة وإن كانت هي الغالبة إلا أن صوراً جسدتها الأعمال الروائية المصرية حاولت عبثاً أن تقاومها، ففي رواية"ملكة العنب"لنجيب الكيلاني،"جاءت صورة العمدة مغايرة تماماً للتي رسمها أباظه في روايته"هاب من الأيام"". بينما في الصورة المحلية السعودية للعمدة، يشير الروائي السعودي الشهير عبده خال إلى أن"شخصية العمدة حضرت في وقت باكر في روايات الشبان السعوديين، خصوصاً أولئك الذين سكنوا الحجاز الذي كان للعمد فيه هيبة وطقوس وتأثير فِعلي كبير، يوازي تأثير شيخ القبيلة في أرياف المملكة في ذلك الحين". غير أن خال أشار إلى أن الروايات السعوديات التي أتت على ذكر العمدة كانت"تقدمه في صورة إيجابية غارقة في المثالية، مثلما كان يمارس بالضبط في الحواري والأحياء الحجازية، إذ كان بأقل العبارات: سنداً يتكئ إليه كل أفراد الحي الذين يعرفهم جميعاً ويحضر أفراحهم وأتراحهم، ويتقدمهم إلى مراكز الشرطة في حال حدوث مشكلات مستعصية، وكانا أباً"، إلا أن هذا السبب لم يراه الروائي المشاغب وحده الذي أحاط العمدة في روايات سعودية بكل الهالة الإيجابية"فالرواية نفسها في ذلك الوقت كان طابعاً وعظياً محضاً ولم ترتق إلى سلم النقدي المنهجي أو الاجتماعي". على حد قوله. وفي روايات أمل شطا وإبراهيم فودة وعنقاوي، وخال أيضاً"كانت صورة العمدة فيها زاهية مثلما هي في الذهنية المحلية تماماً"، كما يفيد خال الذي يجد مبرراً لذلك إذ لم يكن"العمدة حينئذ جاسوساً على أبناء الحي ينحصر دوره في تسليم أبناء حيه للشرطة أو إرشاد شركات التقسيط على عناوين منازلهم الجديدة، ولم يكن كذلك يغيب عن أفراح الناس ولا عن أحزانهم، كما أنه ليس عبئاً إدارياً لا طائل منه مثلما هو الآن، بعد أن أضحى همزة غير موصلة بين المجتمع والسلطة، لأسباب كثيرة، لعبت فيها الطفرة والتحولات الاجتماعية والفكرية دوراً كبيرا". وربما تحول البوصلة، وفقد"العمدة"دوره الذي كان طاغياً بالأمس، هو الذي دفع إلى ظهور مدعين لمقامه كثراً هذا اليوم، في الفن والأدب والحجامة والحلاقة والرياضة!