هناك في أحد منازل حي المظلوم القديمة يقطن عبدالباري، رجل مسن فارع القوام ذو بشرة سمراء ووجه مكتنز، أخذ يسير بخطوات شبه سريعة من منزله متجهاً إلى مسجد الحي بعد سماعه الاذان الأول لصلاة الفجر، إذ تعثرت قدماه بصندوق صغير، نظر إلى أسفل قدميه فدهش حتى استولت عليه الدهشة وهو يحملق في جسد طفل صغير، حتى كادت عيناه تنفلت من بؤبؤتها، حمل الطفل المولود حديثاً مسبحي جسده بقطعة غطاء من الحرير المبطن، وهو يردد لا حول ولا قوة إلا بالله، ثم عاد أدراجه ليفتح باب منزله بعد أن اخذ يردد ياهو... ياهو، وحمحم لتنتبه إلى قدومه زوجته، استقبلته زوجته قاطبة جبينها، عاقدة حاجبيها وأسئلة عدة تدور في ذهنها عندما رأته يحمل الطفل، وليزيل علامات الاستفهام التي تدور في ذهنها، حدثها بقصة الطفل ثم ما لبث أن استأذنها للذهاب إلى الصلاة، لملمت زوجته الطفل لتحتضنه بعد أن غذته وغطته ثم أخذت تتأمل ذلك الوجه الطفولي البريء، وابتسمت وهي تنظر اليه وهو يغط في نوم عميق وفرحة تكمن بداخلها، لحظة ثم توقفت باستدراك، ابن من؟ هل هو بذرة خطيئة؟ ولكن ما ذنبه، انه لم يقترف ذنب وجوده في هذه الحياة، إنه طفل جميل الملامح، بل يشبهني في بعض الملامح، نعم أنفه يشبه انفي، عيناه اتساعهما يشبه اتساع عيني، ثم ابتسمت، ربما وضعه القدر كشمعة تضيء حياتي بعد أن امتلأت بعتمة الانتظار كل تلك السنين، جلست على مقعد الجلوس، وشرد ذهنها ليعود بها إلى بداية حياتها الزوجية، إلى اليوم التي اكتشفت أن زوجها عبدالباري عقيم، إلا أنه خيرها بعد أن اكتشف ذلك بين أن تعيش معه أو تعود لأهلها، لكنني يومها اخترته لأنني أحببته لقلبه الطيب ولحنانه وحبه لي، وكان لدي أمل الا أن كل العقاقير والأعشاب لم تغير ما أراده الله لنا، لحظة توقف شريط ذكرياتها عندما سمعت أنين الطفل، ثم تغير لونه ليصبح أبيض شاحباً، كأن الموت يقترب منه، ضمته إلى حضنها وهي تردد لا... لا.. أريدك أن تعيش، أن أسمع صوتك، أن أشم رائحتك، أن أشبع بالنظر إليك، أريد أن أسمع كلمة ماما، لم اسمعها في حياتي، أريدك لي، لي وحدي، ثم لمست وجهه بيد مضطربة، وهي لا تصدق اللحظة، بل لا تريد أن تصدق، وجهه بارد كالثلج، قدماه... يداه، تحجرت... صرخت بأعلى صوتها وهي تبكي وتنتحب، لقد مات الأمل في حياتها، لقد مات الطفل الذي بكته الحياة قبل أن تراه يعيش. نبيل خليل الكويتي - الرياض [email protected]