كنت شاهداً على الحادثة المؤلمة الذي وقعت قرب الجمرات لهذا العام، فقد اقتربنا من الساحة الفاصلة بين المخيمات وبداية جسر الجمرات من جهة منى قرابة الساعة 12.30، وكانت الأعداد تتزايد والحجاج يتدافعون من كل ناحية وكأنهم سيل لا تعرف من أين يأتي. ووسط تلك الجموع كان المفترشون بأمتعتهم يشكلون دوائر هنا وهناك بعد أن كانوا في اليومين الماضيين خيوطاً طويلة تعوق الحركة، وتمنع الانسياب. كان المفترشون يعوقون الحركة ويربكون السير، واقتربنا من بداية الجسر، وفوجئنا بمجموعات متناثرة وسط تلك الجموع يؤدون صلاة الظهر، وسمعنا أصوات رجال الأمن ورأينا إشاراتهم وهم عند بداية الجسر يصيحون تمهلوا تمهلوا ولكن الأمواج أقوى والتداخل أكثر، واشتد الضغط واستدرت يسرة وهتفت مع الجنود تراجعوا تراجعوا، واستجاب القريبون منا وصار كل ينادي من خلفه تراجعوا تراجعوا وابتعدنا ونجونا من الإصابة، ودعوت في تلك اللحظات لرجال الأمن، وأشفقت عليهم، ورثيت لحالهم لقد كانوا ينظمون دخول الحجاج للجسر برفق، وكانوا في وضع حرج، بحت أصواتهم، وكلت أيديهم ويغلب على ظني أن معظم المصابين هم من أولئك المفترشين ومن أولئك المصلين، وأحمد الله أن رجال الأمن قد تحركوا قبل الحادثة وحركوا أعداداً كبيرة من المفترشين وأبعدوهم عن القادمين ولو لم يحدث ذلك لكانت الإصابات بالآلاف، ولكن الله لطف، وكم يؤسف أن نسمع لوماً لأولئك الأبطال أو عتاباً لأولئك الرجال، ويعلم الله لم نر في تلك اللحظات لا سيارات أمتعة ولا سيارات مواكب، بل يستحيل أن تجد دراجة نارية مكاناً لها بين تلك الجموع. إن أولئك الرجال يستحقون الإشادة والتكريم، وهم الجديرون بالمكافأة والتشجيع، وكم تمنيت لو أن الذين ذهبوا يخوضون بما لا يعرفون في هذه الحادثة وغيرها، يكفون عن ذلك ويدعون للأموات بالرحمة، ويقدمون عبر وسائل الإعلام مقترحاتهم التي يرونها تحول دون تكرار ما حدث، إن كانوا حقاً يريدون الإصلاح. ثم إن الناس لا يتحدثون إلا عن الكارثة التي حدثت بينما رجال الأمن والجهات في المشاعر المقدسة يبذلون الجهود الكبيرة لمنع الحوادث التي لا يحسب لها حساب ولا يفكر فيها، ومن ذلك أنه في حج هذا العام كنت شاهداً لواحدة من تلك الكوارث التي لولا لطف الله ثم كفاءة ومبادرة رجال الأمن في الحج لراح ضحيتها الكثير. والحادثة هي كما شاهد غيري ممن كانوا على جسر الملك فيصل يوم النحر في الساعة الثامنة صباحاً عندما اشتعلت النيران في سيارة فوق الجسر أمام سيارتنا بأمتار، وهي في صف تنتظم فيه آلاف السيارات المتصل بعضها ببعض، مثلما يعرف كل إنسان كتب له أن يشهد الحج، نزل الناس من سياراتهم وأقبلوا نحو الحريق بطفاياتهم التي لم تصنع شيئاً فما هي إلا دقائق معدودة حتى أتى رجال الدفاع المدني من كل ناحية ، على رغم صعوبة الحركة لكثرة الزحام، فكافحوا الحريق، وأنهوا كارثة كانت وشيكة. وأما عدم إفتاء هيئة كبار العلماء بالرجم قبل الزوال في يوم الثاني عشر يوم النفرة، الذي اتخذ منه البعض مطية للنيل من الدولة والعلماء، فإنه لا يصلح أن يكون كذلك، فنحن ممن رمى بعد الساعة الثامنة من صباح ذلك اليوم ولم يمنعه أحد، ووزارة الحج وزعت كل ساعات الليل والنهار أيام التشريق بين مؤسسات الطوافة وحملات الحج لرمي الجمرات، ما يعني أن العمل بالرمي قبل الزوال كان جارياً ومعتمداً من جانب السلطات الرسمية، وإن لم تفت به هيئة كبار العلماء، مع أن أعضاء في الهيئة نفسها أعلنت عشرات المرات فتاواهم بجواز الرمي قبل الزوال يوم النفرة، ومنهم الشيخان عبدالله المنيع وعبدالله المطلق، كما أن سماحة المفتي العام للمملكة أيضاً في حديث له بعد الحج مباشرة نقلته الصحف، أكد أن الرمي قبل الزوال مسألة اجتهادية فيها سعة. ومن الشاهدين على أن السلطات السعودية و فقهاءها لم يلزموا الناس بالرمي إلا في أوقات محددة ما قاله مفتي الديار المصرية الدكتور علي جمعة عندما أشار في مقالته في صحيفة الأهرام بعد الحج مباشرة، - وكان قد حج هذا العام - إلى أن:"السلطات السعودية حددت أوقاتاً لكل بعثة ولكل دولة فكان نصيب مصر من الساعة الثانية عشرة والنصف مساء إلى السابعة صباحاً، وهو ما يعني أن سلطات تنظيم الحج أخذت بالفتوى الصادرة عن جهات عدة في السنين الماضية، بأنه يجوز للمسلم أن يرمي الجمرات في أي ساعة شاء من ليل أو نهار". وأخيراً أقول: لماذا العجلة ولماذا الهروب من الخير! ولماذا نترك الأماكن الطاهرة بهذه العجلة، فلا نخشع ولا نتأمل ونسرع ونخسر صلوات الواحدة منها بمئة ألف صلاة. إن على الإعلام والعلماء دعوة الحجاج إلى التأخر وعدم العجلة، والاستمتاع بالبقاء في الديار المباركة أسابيع وليست ساعات. * عضو مجلس الشورى