لم أكن أتوقع يوماً أن أكتب هذه الكلمات عنه وحوله. في لحظة كل الأمور اكتسبت لوناً آخر وطعماً آخر... من أين أبدأ؟ بلحظات الفرح والامتلاء أم بلحظات الشحوب والانطفاء... كان ذلك منذ سنوات حين كنت أكتب زاوية في مجلة اليمامة تحت عنوان"لحظة هدوء"وكان هو هناك في اليمامة يعمل محرراً صحافياً شاباً نشطاً متألقاً، ولعله بعد ذلك بفترة عمل مديراً لقسم الإعلانات في المجلة ذاتها... بعد غزو الكويت مباشرة بأسابيع أو أشهر ولم تكن حرب الخليج قد بدأت... كنت أود الكتابة حول إحدى الشخصيات التي سبق له أن أجرى لقاء صحافياً معها... اتصلت به وطلبت نسخة من العدد... أتاني به بنفسه فقد كان طيباً معطاء... أدركت ذلك بعد فترة وجيزة فقد كان رجلاً دمث الأخلاق، إضافة إلى أنه يستند على قاعدة ثقافية متينة، والصحافيون الجادون المخلصون في عملهم يعتبرون عملة نادرة في كل زمن... لمست شيئاً واضحاً فيه فقد كان في غاية السمو والنبل... "غازي العبدالله"كان يشرف أحياناً على زاويتي وبعض المعاملات الأخرى المتعلقة بها كان على اتصال بي غالباً ليبلغني أمراً أو يطلب أن أرسل أحداً من طرفي لتسلم مكافأتي الدورية عن تلك الزاوية. توقفت عن كتابة الزاوية في اليمامة... أخذته مشاغله وأنا أيضاً غرقت في عوالمي الأخرى... حتى عملت في مدينة الملك فهد الطبية في شهر صفر 1425ه وكنا بصدد إصدار نشرة"صدى المدينة"تذكرت أنه قد حدثني منذ أشهر ليبلغني أنه ترك اليمامة وأصبح يعمل في وكالة للدعاية والإعلان مع بعض الشركاء، وأنه شريك في الإدارة... ولأنني كنت أعمل وحدي مسؤولة عن النشرة وهي عبارة عن مجلة مصغرة ولم يكن حولي من لديه خبرة صحافية جيدة، فقد خطر في ذاكرتي اسمه مباشرة فليس مثله إنسان مخلص صادق أمين أثق بأنه لن يخدعني أو يكذب في تعامله معي... بدأنا العمل معاً خطوة خطوة... كان يفكر وينفذ ويفاجئني بين الفترة والأخرى بأفكار جميلة لتصميم الغلاف والصفحات الداخلية... هذا عدا مطبوعات أخرى قام بإنجازها للمدينة. حتى كانت الفاجعة... كان ذلك يوم السبت قبل الماضي، وقد كان بيننا اتفاق مسبق، حيث طلبت منه إبداء رأيه في إحدى مقالاتي الخارجة عن المألوف فقد درجت على نشر مقالاتي من دون استئناس برأي أحد، إلا أن هذا المقال كان يمس مشكلة حساسة ذات خصوصية معينة، وكان لا بد من رأي لشخص قدير مثقف، وقد أخبرني أنه عمل منذ فترة أثناء وجوده في اليمامة بإجازة بعض الزوايا... كما أخبرني بأنه يدين بفضل كبير للدكتور فهد الحارثي رئيس تحرير اليمامة الأسبق، حيث اعتنى به واحتواه وسانده في مشواره العملي. لم يجب على هاتف ليلية السبت فقد كان نائماً بسبب وعكة تنتابه بين الفترة والأخرى... ولم أرسل المقال لهذا السبب لكنني كنت بانتظاره...! كان يوم السبت ثقيلاً جداً فوق العادة، عدت منهكة من عملي وفي الرابعة والنصف من عصر ذلك اليوم فوجئت بمن ينقل إلي الخبر... تلقيت ذلك الخبر مثل مزحة ثقيلة سمجة، أو خبر كاذب لم يتيقن صاحبه منه، أضعف الإيمان أن هناك تشابهاً في الأسماء...! لقد رحل غازي وهو الذي لم يكن يحتمل الرحيل كثيراً عن الرياض، فقد قال لي يوماً بأنه مسافر إلى تركيا للمتعة والاصطياف، إلا أنه اكتفى بثلاثة أيام وعاد... لم يحتمل أن يكون وحيداً، وكان رقيقاً مرهفاً... رحل غازي العبدالله... أهو الموت الذي لا نتوقع وهو في الحقيقة، ورغماً عنا، هو الحقيقة الكبرى التي لا بد لنا من التسليم بها...؟! لم أصدق استغفر الله بين لحظة وأخرى أقول سيدق جرس الهاتف في مكتبي ويأتيني صوته، ليبلغني بأن لديه مطبوعات للمدينة وسيأتي بها حالاً... سيدق الهاتف في مكتبي ويقول لي أرسلي مندوبكم الآن، لو تفضلت ليتسلم بعض الصفحات من صدى المدينة لقد انتهينا من إعدادها... بسرعة لا وقت لدينا...! سيدق الهاتف في مكتبي ويقول لي هل تتفضلين بالكتابة معنا في مجلة إسعاف...؟ نريد مقالاً وأعلم أنني سأحظى بتجاوب سريع منك... كان مشرفاً على تنفيذ وتصميم وإخراج مجلة إسعاف. سيرن هاتفي الجوال ويقول لي: لم أجدك في مكتبك... متى تعودين إليه لدي بعض الأخبار المهمة...! أعاند اللحظات وأقول أبداً لم يرحل، هاأنذا أراه في عيني أطفاله وشقيقاته وفي حديث زوجته عنه... أراه يتجسد شامخاً في كل عبارة جميلة يذكر فيها بخير، ويثنى عليه وتفاخر أمه وشقيقاته بأن هذا الرجل كان جزءاً لا يتجزأ منهم... كان بالنسبة إليهن الأجنحة الحانية والاحتواء والظل الوارف الذي لم ولن ينسى... ألف ألف رحمة ندعو له بها، مع كل إشراقة ومغيب لشموس راحلة وأخرى قادمة. * قاصّة سعودية.