جرت العادة أن نسمع بشكل مستمر عن رياضي يعتزل الرياضة، وممثل يعتزل التمثيل، ومطرب يعتزل الطرب، ولكن أن نسمع عن رجل دين يعتزل الدين فهذا ما يستوجب الدهشة التي يعتريها الغموض والتساؤل، وما دفعني للكتابة اليوم هو ما سمعته وقرأته في بعض وسائل الإعلام عن اعتزال الشيخ عائض القرني العمل الدعوي نهائياً والتزام البيت. وهنا أتمنى أن يعذرني الشيخ عائض بتخطئته في هذه الجزئية الانهزامية، في ظل ماض زاخر بالانتصارات الفكرية والمنهجية، القائمة أساساً على قواعد وأسس الدين الإسلامي الحنيف، فعندما قال الشيخ عائض:"لقد قررت أن اعتزل العمل الدعوى"كان الأصح أن يقول لقد قررت أن أنهزم وأتنصل من العمل الدعوي، فالاعتزال هو أن يقوم شخص ما بترك عمل أو هواية أو حادثة أو فكر معين بشكل كامل وقطعي، أما التنصل فهو الهروب من المسؤولية والواجبات التي يفرضها عليه ذلك العمل أو الفكر الذي يمتهنه أو يتبناه، وكلنا يعلم يقيناً أن العمل الدعوي هو جزء من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو واجب على كل مسلم بالغ عاقل، وتتدرج هذه المسؤولية بتدرج مكانة المسلم ومعرفته وعلمه، ولكن لا تسقط عنه بحال من الأحوال، وان أخذت أشكالاً مختلفة. الغريب في قرار الشيخ القرني أن المبررات والأسباب التي رافقت القرار لا تلامس المنطق، ولا تتبنى الحجة، وهو شيء مستغرب من هذا الرجل الذي عوّد المتلقي على الحجة والمنطق، فغدا بذلك احد أهم رموز الدعوة ورجالات الدين، فأتى في ليلة من دون ضحى ومن دون سابق عذر منطقي أو حجة مقنعة لينشر قصيدة مؤلفة من30 بيتاً يتوجد بها على أهله ومسقط رأسه، ويعلن على وحد وصفه اعتزاله، وعندما سئل في اليوم التالي عن السبب الذي دفعه إلى هذا الإعلان، قال:"تلقيت اتهامات عدة، فالحداثيون يعتبروننا خوارج، والتكفيريون يشنعون علينا بأننا علماء سلطة". وعلى عكس العادة التي تستوجب بطلان العجب عند معرفة السبب، فقد زاد العجب لحظة معرفة السبب، للأسباب الآتية: أولاً: ماذا ينتظر الشيخ عائض القرني من التيارات المخالفة له؟ بغض النظر عن صحتها من عدم صحتها ? بالتأكيد ليس التصفيق والتأييد والإعجاب، فمنذ أن وجدت الديانات السماوية بمذاهبها المختلفة والإيديولوجيات الفكرية بتياراتها المتعددة، منذ ذلك الوقت والمخالفة والتخطئة والمعارضة هي الشكل الطبيعي والحيوي والضروري للبقاء والاستمرارية أو الزوال والغياب، فلو أن كل صاحب ? أو متبع ? اتجاه فكري أو تيار ديني تنازل وانسحب عما يتبناه من قناعات ومبادئ وما تفرضه تلك القناعات من مسؤوليات وواجبات، لما وجدنا استمرارية لأي من الاتجاهات أو التيارات السابقة. ثانياً: تكلم الشيخ القرني عن حيرته بين الحداثيين والتكفيريين، وهنا نفهم من كلامه أن المجتمع مشمول بهذين الصنفين حصراً حداثي أو تكفيري وهنا وقع في مغالطة أخرى، وهي إهمال الشريحة الأكبر من المجتمع، وهي الشريحة العامة الوسطية، التي تُعتبر هي المتلقي الأوسع قاعدة والاهم توجيهاً، ولا يخفى على احد ضخامة حجم القاعدة الجماهيرية التي أوجدها الشيخ عائض القرني لنفسه في الفترة الأخيرة، والتي لم تحدها الجغرافية ولا المذهبية المحلية بل تجاوزتها إلى الدول العربية والإسلامية وبعض الدول الغربية التي ترجمت له بعض كتبه بلغاتها، فكان بذلك احد أكثر رجال الدين والدعوة متابعة على النطاق الخارجي. ثالثاً: من الأولى أن يقتدي الشيخ عائض القرني بالأنبياء والصالحين اشد الناس ابتلاء وأكثرهم تحملاً، فالقدوة العظمى نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - تحمل العذاب والجوع والاغتراب في سبيل الدعوة، والصحابة والتابعون حملوا أرواحهم على كفوفهم ناذريها للدعوة بعد أن تركوا ? غير مبالين ? خلف ظهورهم الغالي والثمين من المال والبنين، والتاريخ الإسلامي يزخر بالأسماء التي ضحت في سبيل نشر كلمة الحق، فتحملت التعذيب والسجن - من أمثال احمد بن حنبل وابن تيمية وغيرهما - ولم تترك العمل الدعوي. رابعاً وأخيراً: إذا كان الشيخ يعتقد ويقتدي ببعض السلف الصالح الذين اعتزلوا المجتمع، فهؤلاء قد اعتزلوا الفتنة ولم يعتزلوا واجبات الإسلام المفروضة كما فعل الشيخ القرني، الذي نجد معارضة واضحة بين محتوى ارثه خصوصاً كتاب"لا تحزن"وما فيه من دعوة الى الصبر والحلم ومحتوى قراره باعتزال العمل الدعوي الذي هو من واجبات الدين، وبالتالي اعتزالها هو اعتزال للدين. أكاديمي سعودي [email protected]