لا يزال مئات الطلاب والطالبات يتذكرون معلمتهم آمنة جاسم على رغم مضي ست سنوات على رحيلها، لأنها علمتهم القرآن الكريم ومبادئ القراءة والتهجئة اللغوية المفككة وبعض القصائد والفقه في"الكتاتيب"قبل نحو نصف قرن في قرية المنيزلة إحدى القرى الشرقية في محافظة الأحساء. ولكن هؤلاء الطلاب والطالبات الذين كبروا أصبحوا معلمين ومديرين ووكلاء مدارس في الأحساء، قد لا يعلمون ان معلمتهم التي رحلت عن 67 عاماً لم تكن تجيد الكتابة مطلقاً، بل كانت تقرأ فقط. والراحلة آمنة ليست المعلمة الوحيدة التي لم تكن تجيد الكتابة، اذ هناك عدد كبير من معلمات الكتاتيب في قرى الأحساء ومدنها كن كذلك، فهن عاصرن حقبة زمنية كان للمرأة فيها دور فاعل في مسيرة التعليم من خلال"الكتاتيب"التي كانت تقام داخل منازل المعلمات. وأصبح لكل قرية من قرى الاحساء وكل حي من أحياء مدنها"مطوعة"، تتولى تعليم الصبية والبنات، القرآن الكريم ومبادئ القراءة، في مقابل مبلغ زهيد جداً، أو في مقابل وجبة غداء بسيطة. وعلى رغم انحسار ظاهرة الكتاتيب اليوم، مع انتشار المدارس، ووفاة غالبية المعلمات، مثل آمنة إلا ان هناك من لا يزلن يواصلن التعليم في الكتاتيب، ومن هؤلاء بنت آمنة فاطمة علي 57 عاماً، التي امتهنت مهنة والدتها، وما زالت تعلم بنات القرية، وتقول:"كنت لا أفارق والدتي منذ أن كان عمري 4 سنوات، وكنت أجلس إلى جوارها في حلقة الكتاتيب، اسمع وأردد ما تمليه على تلاميذها". وتتذكر فاطمة حرص والدتها الشديد على مستوى تلاميذها، وتقول:"كانت رحيمة عليهن وقاسية في آن، فالعصا الطويلة لم تكن تفارق يدها، لكنها كانت تكافئ المتفوقين في القراءة والحفظ بالهدايا، كأن تعطيهن بيضة دجاجة قدمتها لها أم صبي أو صبي في مقابل التعليم. ولكنها كانت لا تغفر للمقصرين، لذلك كنت أخافها أثناء الدرس، وأكون سعيدة حين ألعب معها بعد أن ننتهي، فهي تملك شخصيتين متنافرتين تماماً". وعلى رغم ذلك كانت معلمات الكتاتيب يحظين باحترام كل القرية، فآمنة مثلاً يقبل رأسها كل طالب درس في حلقتها، حتى لو أصبح رجلاً، ودخل المدرسة، وأصبحت له وظيفة مرموقة. وفي الأعياد كان منزلها يزدحم بطلابها السابقين، الذين يحرصون على تهنئتها في العيد، كما كان لها مكانة واحترام عند الجميع، وتستشار في جميع الأمور. ولا ينسى صالح عبدالله أحد طلاب آمنة، العصا التي لسعت ظهره عدة مرات، ولكنه يقول:"كان لها دور فاعل في بناء شخصيتي، وتعليمي، الذي تابعته في المدارس النظامية حتى تخرجت في الجامعة، وأصبحت معلماً، ثم وكيل مدرسة، وبعد مرور 67 سنة أدين لهذه المرأة الجليلة بما أنا فيه اليوم". كما يحفظ المزارع حسن الحسن ما تلقاه من علوم على يد"المطوعة"آمنة، وعلى رغم عدم استمراره في التعليم، إلا إنه يستطيع أن يقرأ قليلاً، وبحسرة يقول:"ليتني أكملت تعليمي، ولم أهرب من الكتاتيب". وبعد بلوغ فاطمة التاسعة حفظت نصف القرآن، وختمته كاملاً بعد عامها الرابع عشر، وتقول:"تأثرت بوالدتي، التي لا ينفك لسانها يلهج بالآيات في أروقة المنزل، وبسبب تعلقي بها وجدت نفسي أحفظ ما تردد". وتتذكر البنت ورع أمها وزهدها وتقواها، خصوصاً انها كانت تختم القرآن في شهر رمضان ثلاث مرات، بينما لا يستطيع أحد في سنها أن يختمه مرة واحدة على حد قولها. وتعج قرى الأحساء اليوم بالمتعلمات، اللواتي لم يدخلن المدارس الحديثة، واكتفين بالتعلم لدى معلمات الكتاتيب، وغالباً ما تورث"المطوعة"إحدى بناتها أو أي طالبة تجد فيها النبوغ والتميز، المهنة. ويبقى سؤال:"لماذا لم تكن معلمات الكتاتيب يجدن الكتابة"؟ وتجيب فاطمة:"كان تركيزنا على الحفظ والقراءة، وبدرجة كبيرة على القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف، ولم يكن هناك وقت كافٍ لتعليم الكتابة".