كانت صقلية، الجزيرة التي تقع في البحر الأبيض المتوسط عند الطرف الجنوبي لإيطاليا، في عصور مضت أحد المراكز المهمة للحضارة اليونانية القديمة، ثم للحضارة العربية. كانت تشع منها لفترة من الزمن ثقافة وفلسفة صارا جزءاً من تاريخ الإنسان. لكن في عصر الحداثة الرأسمالية وبعدها في عصر ما بعد الحداثة، تحولت صقلية إلى موطن لعصابات المافيا التي قامت بنشر الجريمة ليس في شبه الجزيرة الإيطالية وحدها، بل صدّرتها أيضاً إلى بلاد أخرى كثيرة ومنها الولاياتالمتحدة الأميركية. ونظراً لأن إيطاليا نشأت فيها صناعة سينمائية مهمة، وأن هوليوود توجد في أميركا الشمالية، تعددت الأفلام التي تناولت موضوع المافيا، لا سيما أن نشاطها في عالم الجريمة، في تجارة الأسلحة، والمخدرات، وتجارة مختلف أنواع الرقيق الأبيض وغير الأبيض، البالغ سن الرشد أو الذي لم يبلغه بعد، قد انتقل إلى عالم السياسة والفن، فتوثقت العلاقات بين رؤساء عصابات المافيا، وسياسيين أو فنانين من ذوي النفوذ إلى درجة أن بعضهم صاروا أعضاء فيها. سارت هذه الأفلام على منوال متشابه إلى حد كبير، لكن أخيراً في عام 2012 حين قام اثنان من مواطني هذه الجزيرة، هما فابيو جراسادونيا وأنتونيو بيازا بكتابة سيناريو فيلمهما الأول، وإخراجه عن المافيا اتى مختلفاً عما تعوّد المشاهد أن يراه. سالفو الذي قام بدوره الممثل الفلسطيني صالح بكري قاتل محترف في عصابة مركزها باليرمو عاصمة جزيرة صقلية وهو رجل طويل القامة، حجري الملامح. يشاهد راقداً في أول الفيلم على سريره في الجو الحار للصيف. تنقطع الهمهمة المعدنية للتكييف فيقوم، ويحاول تشغيل المنبه فلا يستجيب. شيء في حركته القلقة، في انقطاع التيار الكهربائي، في اللقطات السريعة، المتلصصة والمقطوعة بسرعة يوحي بخطر غامض قادم. يتشاور مع خادميه، رجل وامرأة مرتبكين بسبب خوفهما الواضح منه. بعدها يهبط من غرفته ليقود سيارة، في هدوء وإلى جواره رئيس العصابة. لكن بين حين وآخر يلقي الرجل بنظرات في المرآة متتبعاً سيارة تتعقبهما. فجأة يظهر أمامهما ثلاثة من الرجال يطلقون عليهما زخات الرصاص من بنادقهم الآلية. يقفز سالفو من السيارة وفي لحظات تم تصويرها بحركة بانورامية سريعة وحاسمة من الكاميرا يقتل اثنين منهما، ويتتبع الثالث الهارب إلى أن يلحق به. تحت التهديد بالقتل، وإزاء الوعد الذي يعطيه له بأن يطلق صراحه إن كشف عن اسم من حرضه، يبوح له الرجل باسمه، لكن بدلاً من أن ينفذ وعده يفرّغ في جسمه طلقات عدة من بندقيته. رجل على صورة قط هكذا يتم أول تعارف للمشاهد على هذا الرجل المدعو سالفو الذي عندما يتحرك يشبه القط الكبير، الصامت والبارد الذي يستعد للهجوم. مثل هذا الرجل لا بد من أن يواصل ما فعله ليقضي على من دبر محاولة الاغتيال على رغم نصيحة الرئيس الذي ما زال جالساً في السيارة بأن يترك الأمر عند هذا الحد. يتوجه إلى منزل رئيس العصابة الأخرى ليتربص به. المنزل كبير غارق في الظلام، وفيه غرف كثيرة، لا تصل إليها سوى ومضات من الضوء، فيتحرك فيه ببطء، وبحرص شديد، فلا نرى سوى قوامه كالشبح المرتفع، أو ظهره العريض، أو أحياناً يده يتحسس بها باباً نصف مفتوح، أو ذراعه. يكتشف أن غريمه ليس موجوداً بالمنزل، وأن بدلاً منه توجد امرأة شابة تستمع إلى موسيقى راقصة حديثة وهي منهمكة في عد رزمة من أوراق النقد. تشعر بحركة خفية. تقوم، وتتحسس طريقها بكفي يديها فتدور بينهما تحركات صامتة حثيثة مثل لعبة القط والفأر، إلى أن تحتك بجسمه وذلك كأنها فاقدة البصر، لكن عندما تصطدم يده برأسها يستخدم المصور الظلال، وبعض الضوء الأبيض الخافت ليوحي بأنها بدأت ترى أشياء غامضة في عينيها الجميلتين، اللتين اتسعتا من الذعر. في الوقت نفسه يتتبع المشاهد ما يدور مرات من خلال ما تراه المرأة، ومرات أخرى من خلال ما يراه الرجل فتنتقل إليه أحاسيس الإثنين بفضل اللقطات المبدعة للمصور. يدور كل هذا في صمت، بلا صراخ ولا كلام، فقط صوت احتكاك الأجسام بالجدران، أو أصوات التنفس في الظلام تخترقه أحياناً ومضات من الضوء، على الأخص عندما تبدأ المرأة في رؤية بعض الظلال. فالتصوير يجري بحذق شديد ليصبح هذا المشهد المثير للتوتر، والذي يدوم قرابة العشرين دقيقة، مشهداً حسياً يعتمد على الأصوات، وعلى التصوير، ولا شيء سواهما، وهو أسلوب اتبع حتى النهاية، وإن كان إلى درجات أقل. هذا هو الطابع العام للفيلم الذي اعتمد بشكل محسوس على التعاون بين حامل الكاميرا، ومهندس الصوت منتجاً بذلك نمطاً من السينما الحسية الأصيلة، ما يعرضه طبعاً للإقلال من عدد الذين سيسعون الى مشاهدته. نسمع صوت سيارة رئيس العصابة وهو يدخل سيارته غالباً في الكاراج ويصعد إلى المنزل فيُطبق سالفو على فم المرأة ليمعنها من الاستغاثة، ثم يتمكن من قتله، لكن تبقى أمامه معضلة: ما الذي سيفعله بهذه الشابة الجميلة الفاقدة البصر؟ ربما للمرة الأولى في حياته لا يقدم على القتل. يصطحبها إلى مكان مهجور، إلى مصنع أغلقت أبوابه وأصبح بناء متهاوياً معزولاً، ليحتجزها فيه، ثم يتردد عليها في أوقات متفرقة حاملاً إليها الطعام. لكنها غاضبة، ثائرة تحاول الخروج من المكان. تضرب الجدران وتضربه هو بيديها عندما يحضر إليها بالطعام من دون جدوى. يتركها تفعل ولا يلمسها. لكنها في هذا المحبس تستعيد قدرتها على الرؤية بالتدريج، فتغطي النوافذ بما تجده في المكان من أكياس البلاستيك، أو من الورق المقوّى، أو أي شيء آخر، فالضوء يتعب عينيها، اللتين تعودتا على الظلام. هذا كأن الصدمة التي تعانيها جعلتها ترى ما لم تكن تراه من قبل. تهدأ بالتدريج وتنشأ بينها وبين سالفو علاقة يصعب تحديد طبيعتها فليست لها علاقة بالجنس، ولا هي عاطفة حب تنمو بينهما، فهما لا يتلامسان، ولا يتبادلان إلا كلمات قليلة للغاية. هل يبحث هو عن علاقة بإنسان آخر تخرجه من عزلته القاسية التي لا تعرف سوى العدوان، والقتل، والإحساس بالقهر الذي يحيا في ظله؟ ربما، فميزة هذا الفيلم أنه لا يقول كل شيء إنما يترك للمشاهد أن يرى ويحس. فهل تنبه سالفو مثلاً إلى أشياء لم يكن يراها من قبل تماماً كما استعادت المرأة الشابة قدرتها على الرؤية، في معنى ان الإثنين كانا فاقدي البصر كل منهما من زاويته، فأصبحا يريان ما لم يكونا قادرين على رؤيته من قبل؟ من اعتاد شيئاً... لكن الذين اعتادوا أن يتحكموا بمصائر الآخرين لا يحلو لهم أن يفلتوهم من قبضتهم. أحس رئيس العصابة أن سالفو لا ينوي القيام بقتل الفتاة فيحدثه في هذا الأمر لكن سالفو يمتنع عن إظهار ما يوحي بأنه سينفذ ما يريده. يتمكن رئيس العصابة من معرفة المكان الذي يختبئان فيه. يحاصرهما برجاله. وأثناء هروبهما يصاب سالفو بجرح لكن المرأة الشابة تسنده حتى يتمكنا من الإفلات في ظلام الليل. جرح سالفو خطير ينبئ بأنه لن يعيش. ومع هذا ينتهي الفيلم برؤيتنا لظهري سالفو والمرأة ريتا وهما جالسان في شرفة المكان الذي هربا إليه يطلان على منظر الجبال ساعة الغروب فتتسرب شعاعات ملونة من الشمس من بينهما، ويستمر هذا المشهد حتى تصل الصورة الى سالفو لكنه جالس وحده في الغسق أخذ يتحول إلى ظلام. عرض هذا الفيلم المتميز على شاشات للسينما في القاهرة ضمن مهرجان بانوراما السينما الأوروبية الذي تنظمه كل عام ماريان خوري فيتيح لعشاق السينما فرصة مشاهدة بعض الأفلام التي لا تتاح لهم فرصة لرؤيتها في ظل سوق السينما الذي طغى في كل مكان.