مات أهل الغوطة الشرقية بغاز السارين أو غيره، لا يهمّ، فقد قُتلوا غير آبهين بالسلاح الفتّاك الذي أفنى أرواحهم. أما الأحياء فمشغولون منذ انكشاف الجريمة بلغز تحديد السلاح الذي أودى بكل هذه الأرواح! بمعنى أن هناك موتاً معقولاً نوعاً ما وآخر غير معقول. هناك موت مهضوم وموت غير مهضوم. الشكل الذي يحدث فيه الموت يُحدّد للأسف شكل التعامل معه ومع حصوله. ويصير الموضوع شكل الموت وأداته وظروفه وليس الميتين فيه! هكذا يبيّن لنا السجال المحتدم راهناً حيال مشاهد المجزرة المروّعة في الغوطة الشرقية. مجزرة، يبدو فاعلها مُحكماً، لأنه استطاع أن يقتل كل هؤلاء الناس من دون أن تسيل من دمهم قطرة واحدة. موتى من دون دم مسفوح! موتى من دون بشاعة ظاهرة. هكذا، اعتقدَ أنه موت أسهل وأقلّ وقعاً على العالم. هكذا، اعتقد ليتضح له ولنا أن هذا الموت الهادئ - بضعة صواريخ فقط - أشدّ فتكاً بالبصر والبصيرة من أي موت سبقه. هذه الطوابير من الموتى بالتكنولوجيا النقية أشدّ فتكاً وهولاً. عندما قضى العشرات في قصف إسرائيلي بالخطأ على قرية قانا اللبنانية، أوقف شمعون بيريز، وكان في حينه رئيس الحكومة في إسرائيل، عمليته العسكرية ضد لبنان والتي سمّيت إسرائيلياً ب"عناقيد الغضب". أمر جيشه بالتوقف عن إطلاق النار! وانكفأ الجيش وسكتت مدافعه! لأنه رأى عاره بأم عينيه ورآه العالم صريحاً سافراً جرّ آلياته وخيبته من وجهه في مرآة قانا وعاد. فهل يوقف طُغاة الشام حربهم ضد الناس بعد هذه المجزرة! سؤال في الهواء لا أستبعد أن يجرّدوا عليه حملة مثلما بدأت حملتهم ضد غرافيتي كتبه فتيان درعا بعفوية الصبا على جدران حارتهم. قد لا نتوقع شيئاً من طُغاة الشام، لكننا نتوقعه من العرب العائدين من الأندلس ومن العرب الذاهبين إلى الجنّة. وقد لا نتوقع شيئاً يُذكر من الغرب الذي لا يرى حتى الآن أي داع للتدخّل فقط لأن الضحايا غير مسيحيين. وقد درج هذا الغرب قبل اتضاح غربيته بالكامل على التدخل في شؤون الامبراطورية العثمانية كلما تعرض المسيحيون فيها للخطر أو بحجة تعرّضهم للخطر. عدم تدخلهم عنصري في أساسه مثلما هو تدخلهم في الشأن العربي عنصري ونفعي في معظم الأحيان. لا يعدم العالم آليات تنظم تدخله في سورية لكن تنقصه الإرادة في ذلك. فالفصل السابع من نظام أساس مجلس الأمن ينصّ صراحة وبالتفصيل بنود 39-52 على كيفية القيام بذلك ومراحله وأشكاله وإمكانياته ومسوغاته. وفي الحاصل، في سورية ألف مسوّغ للتدخل المتعدد الأشكال. لكن العالم - محافل دولية ومنظمة الأممالمتحدة والمحاور العظمى ومجلس الأمن - لا يُريد، حتى الآن على الأقلّ، أن يتدخل على نحو يوقف هذا المشهد المروّع القادم من سورية والمرشّح لتوليد المزيد من المجازر بالغاز أو بالنار أو بالسلاح الأبيض. لماذا لا تُقام المناطق الآمنة مثلاً؟ لماذا لا يتم قصف مراكز الحكم ومفاصل القوة التي لا يزال النظام السوري مستحكماً فيها يوجّه ضرباته منها ذات الغوطة وذات الساحل؟ لماذا لا يتمّ تسليح الثوار العلمانيين أصحاب المشروع السياسي الديموقراطي بالسلاح النوعي على منظوماته كلها؟ لماذا لا يمنحون السوريين والسوريات فرصة الدفاع عن أنفسهم أمام الماكينة العسكرية للنظام وحلفائه من العراق وإيران ولبنان ومن غيرها؟ دفاع ممكن بالتسليح والدعم اللوجيستي والتدريب وما إلى ذلك من أشكال؟ لا تتدخلوا مباشرة، لكن زوّدوا الثوار على مزاجكم بالسلاح، وهو أضعف الإيمان! مواد المحكمة الجنائية الدولية تشكل قاعدة أخرى للضغط على عصب النظام ورموزه. فلماذا لا يتم تفعيلها والاستناد إليها في محاصرة النظام ورموزه وكل جهة مساندة له في الداخل والخارج. أما تعريف أوروبا ل"حزب الله"منظمة إرهابية، فهو خطوة مبكية مُضحكة وجاءت بعد خراب القصير! يُمكن الغرب بدوله ومنظماته العابرة للقارات أن يفعل شيئاً آخر لكنه لا يفعل، ليس لأنه مقيّد اليدين بمصالح واعتبارات كما يحاول تبرير تقاعسه، بل لأسباب في عمق نظرته وتوجهاته إلى الإنسان العربي وثقافته ومصيره. وهي نظرة استعلائية في أساسها. صحيح أنها ثقافة لا تدعو إلى الفخر أبداً، لكن قصورها الأخلاقي لا يبرّر القبول بالصمت والتواطؤ وحصول المشهد ذاته يوماً بعد يوم من موت رعاياها. موت السوريين في الغوطة الشرقية في هذا الشكل يتجاوز وسط هذا الكلام الفارغ حدود العبث إلى الحقيقة الموجعة بأن الإنسان أحطّ المخلوقات كما أسس فرويد، وليس أشرفها!