يا فُلْكَ نوح؟ مقاطع كانتِ اليدُ تَصنع وسائدَ لنجومٍ أضناها الأرَقُ وكانت الخرائطُ حوله تتقطّر دماً وفي الغيوم التي تحفُّ به خُيِّل إليّ أنّني ألمَسُ شظايا رؤوسٍ وأجسامٍ تُرى هل صار الهلالُ وحشاً؟ وكيف يصير المساءُ فرْواً لمجازرَ تلتهمُ كواكبَ العقل وأفلاكَ المخيِّلة؟ قلْ لجِراركَ يا ثلجَ أرارات أن تصبّ خمورها لرُعاة النّجوم وأعرفُ: يوماً ستنفجرُ فوّهات أعماقكَ ولسوف تؤاخي ثلجَك المجرّاتُ والبساتين أولئك الذين ذُبحوا في ما وراءك، وفي ما حولك، وفيك ومن أجلكَ هم الآنَ ثمرٌ هم الآنَ غيمٌ يحمل المطرَ هم الآنَ مطرٌ تتدثّر به الأرض * أرارات - كلّ يومٍ يتناثر تحت قدميكَ الهباءُ العثمانيّ قلْ نعم لهذا النذيرِ النافر النبيلِ، الضوء الذي يتبجّسُ من أحشائكَ لكي يضيء ظلمات التاريخ. وقتٌ يتدلّى أجراساً أجراساً من أعناق الرياح. جرسٌ يقول اقتلْ ذكرياتكَ قبل أن تقتلك جرسٌ يقولُ احفظِ الذاكرة لكن من أجل شيءٍ واحد: أن تحوّلها إلى ينابيعَ تبتكرُ حاضرَكَ وتبتكرُ الدروبَ إلى ما يأتي القلقُ في العظم قلقٌ لكي يطمئنَّ الجسد بين الطاغية والطّاعون زواجٌ راسخ قلْ لي أيُّها الجبلُ الشّيخُ الشابُّ ما هذه الرؤوسُ التي تتدحرج كمثل كراتٍ من الثلج على منحدرات المعنى؟ نوِّرْني أيُّها الهباءُ الذي يتصاعد من رئتَي أرارات ويملأ الأروقةَ التي تصلُ بين أبوابِ الطبيعةِ وعتباتِ الطَّبع أرارات، إنها خطواتُكَ في شوارع يريفان إنها أشباحُك المتنوِّعة، المتعدّدة، كتفُك اليسرى، كتفُكَ اليمنى، قامتُك أشجارٌ تتعانق، نباتاتٌ ترقص، ياسمينٌ، وردٌ وفي كلّ واجهةٍ يتلألأ وجهك ولك سَقْفٌ تغارُ منه السّماء هكذا أنتَ ونحنُ، طبيعةٌ واحدةٌ وطبعٌ واحد في الصحراء في سراديب القتل في جمرِ العذاب في حرائق الجوع والعطشِ أقمنا صداقةً مع الموت تاركين لأحفادنا إرثاً اسمُه الهول الهوْلُ الذي غلبناه سنديانةٌ شيّخت في ظلّك، فقدت ظلّها تخيّلتُها أمس وخيِّل إليّ أنني سألتها: متى التقيتِ أمّي؟ ******* لا تتركْني، ليتك تسحرني وأتحوّل، ولو لحظةً واحدة إلى ضوءٍ فائقِ السّطوع لكي أستطيعَ أن أرى ما بداخل هذا الكائن الملاكِ الشيطان الذي يُسمّى الإنسان لا يقتلُ أخاه وحده لا يقتل نفسه وحدها يقتل كذلك الطّينة التي جُبِل منها والبيت الذي يؤويه يقتل الأرض ولماذا يبدو كأنه لا يريد أن يعيش أو يفكّر إلاّ قاتلاً أو قتيلاً مجرماً أو ضحيّة؟ وأنتِ يا فُلكَ نوحٍ، هل اطمأنّت أشرعتُك؟ وإلى أين تُبحرين؟ ******* كيغارد - ردّدتُ في ذاتِ نفسي كثيراً، ضِع هنا أيها الشاعر لكي تُحسنَ البحثَ عن نفسك وسوف تقول آنذاك الحياةُ والموتُ أخوان، طفلانِ في سرير الوجود ******* في الزاوية في الفسحة التي تصل باطن العَتمة بظاهر الضوء في النَّقش الذي يتهجّاه البصرُ لكي ينقله إلى البصيرة في العتبةِ في الجدران التي تتآخى مع قامات العواصف في المطر الذي يرسم المسيحَ على العشب والتراب والحَصى في الأودية وعلى الذُّروات في المغارة التي تتنفّس بها أحشاءُ الجبال كأنها رئةٌ للصخور، رأيت كيف يصبح الإنسانُ شهاباً يجدّد فضاء التاريخ. ****** كانت جدرانُ كيغارد تتموّج في ضوء مساءٍ وادعٍ كمثل سربٍ من الطيورِ في مهبّ نسيمٍ يتدثّرُ بعطرٍ سرّيّ وكان التاريخ يركض في صدورنا بخطواتٍ تزدرد المسافات ويتهيّأ لكي يحفر آهاته في رؤوس الجبال. ****** في رنين الجرس تولد أوديةٌ تولد أعالٍ وأبْعاد ويخيّلُ لمن يرى أنّ الأشجارَ والحجارَ والنباتات تسيرُ في موكبٍ واحدٍ مع أصداء المعنى أنّ الأشياءَ تهمسُ في أذنيه متسائلةً: أليستْ حقيقةُ الشيء في النشيد الذي يغنّيه؟ ******* يداً بيد تسير كيغارد وتضاريسَ التكوين يداً بيد تسير نورافانك والشمس هناك وهنا تنزل الكواكبُ ضيوفاً تخيّم الشُّهب وتترحّل الحصى غيومٌ، والأودية سلالمُ وعتَبات حلمتُ فجأةً، هنا وهناك، أن أستعيد أيّام طفولتي وأن تختلطَ أنفاسي بِوَردِ الصُّخور حلمتُ أن يكون لحبّي بيتٌ آخر بين تباريح كيغارد ونورافانك وقلت لرأسي، فيما أشاهدُ ما أبدعه رأسُ موميك: أنتَ الآن في حضرة جمالٍ لا تستطيع أن تقرأهُ إلا إذا استعَنْتَ بعينٍ ثالثةٍ حيث تمتدّ خيوطٌ تتدلّى منها كواكبُ خفيّةٌ بينك وبين أوائل الخليقة وحيث تسمع أصواتاً تتصادى. يمكن أن يُقال الكلامُ ينسى نفسه يمكن أن يُقال الكلام لا يعرف أن يتكلّم كيف يُنسَجُ رداءُ التاريخ بأجسام البشر تلك هي المسألة في رؤوس الطّغاة جدارُ التاريخ الذي تثقبه الإرادة: ذلك هو الردّ على أولئك الطّغاة اصطدامُ شهوةٍ بجسمِ لحظةٍ من العالم، كلمةٌ تفتح ذراعيها لفعلٍ مذكّرٍ متى يُعلَّقُ العالم على خشبة الحقيقة؟ ****** لا شيء شهابٌ يسقط منطفئاً في طريقه إلى ماءِ الأرض لا شيء استهلكَ الجنونُ طاقاتهِ وخسرَ العقلُ ثرواته وها هو الفكر يبدو كمثل شحّاذٍ مُلِحٍّ ثقيل لم تعُدْ كافيةً هجرةُ الأفق لكن ماذا تقدر أن تفعل هجرةٌ عموديّة؟ قافلةُ سفُنٍ للصّيد تُقلق الشِّباك تتساءل كلّ سمكةٍ: في أيّ معدةٍ سأسبح بعد هنيهة؟ نظرٌ قاتلٌ بدأ بقتل صاحبه ******* ليت الكلمةَ تغصّ ليتها تتمزّق وتتشرّدُ وتَعرى تجوعُ تسيرُ حتّى تتصبّب عرَقاً وتستيقظ على الأرض مُنهَكَةً تشهقُ وتلوِّح وتصرخ تنزف تخلقُ طريقاً داخلَ الطّريق، ومسافةً في قلب المسافة وتمتلئ يداها شوكاً تُشرف على الاختناق، تستخفّ بالحياة وتعتزّ بها في اللحظة ذاتها تحضرُ وتغيب في آن تفتح نفسَها للفضاء لكي يسيل فيها تنشقّ اثنتين، ثلاثاً، عشراً ليت الكلمةَ تعيشُ هذا كلَّه لكي تعرف كيف تواكب مشهداً واحداً من ملاحم الإبادات أمسِكْ بيديّ، اسندْني، أيُّها الشعرُ-الحبُّ، احضنّي أرارات. بدعوة خاصّة، زار أدونيس أرمينيا وأمضى فيها أسبوعاً، وكتب متأثّراً بجمال هذه البلاد، طبيعةً وشعباً، نصّاً طويلاً هنا بعضَ المقاطع. وكان الشاعر اللبنانيّ الأرمنيّ سركيس غيراغوسيان ترجم إلى الأرمنية مختارات من شعر أدونيس صدرت في العاصمة يريفان لمناسبة هذه الزيارة.