كان يعتري وجوههم شيء ما. ربما ظهر لهم على حين غرة نور لم نلحظه في حينه، أو اعترتهم سكينة، رغم حركة الأجساد التي راحت تتمايل على إيقاع سريع حيناً وهادئ أحياناً أخرى. ربما كان ذلك وربما كان غيره، لكنهم كانوا كأنهم في عليين، أما الأصوات فكانت همهمة غير مكتملة، لكنها مفهومة. وجه الشيخ يبدو مهيباً في شكل لم يكن أبداً بتلك المهابة، نظرته متجهة إلى السماء، ويداه الخاشعتان ترتفعان، لتهبط لتنظيم الإيقاع حين يختل. هو يوم مهيب وعظيم، عاد فيه الشيخ بعد زمن طويل لم يُحْصِه الناس، لشعورهم بطوله. كانت لحظات جليلة تلك التي تجمع فيها المحبون حوله. تجلى الشيخ وتألق كما لم يفعل من قبل، وهي المرة الأولى التي عاد فيها إليهم بعد طول انتظار. النساء العجائز احتللن الصف الأخير، كلهن يظهرن ضامرات وصابرات، ورغم اختلاف الوجوه إلا أنهن ربما يشتركن للمرة الأولى طوال حيواتهن في أمل أخير: العفو. هي المرة الأولى التي سمح فيها الرجال بخروجهن للتبرك بالشيخ. بهاء الشيخ أعاد إليهن الحيوية والألق، والشغف يظهر في عيونهن الكليلة. الرجال صفوف وتتملكهم القوة والفتوة، وكأن القوة تُمِدّهم بأسباب السماء، وبين الحين والحين يُصدر أحدهم صرخة عظيمة، يتبعها دوران، ثم احتقان، ثم تشنج يتبعه تقافزات في عضلات الرقبة وانتفاخها، ثم يسقط على الأرض وذراعاه ممدودتان كالأجنحة، ورأسه مطروح إلى الخلف، وعيناه مغمضتان، والعرق يتأرجح على جبهته، وجسده متخشب. لحظةَ ذاك، ينسحب من الحلقة رجل أو اثنان حاملَيْن من سقط إلى خارجها، حيث هناك من يستطيع أن يقدم له يد العون. في بعض الأحيان تضرب الأقدام على الأرض، وفي أحيان لا يُسمع إلا دبيب خفيف للأقدام نفسها. تلف الهمهمة المكان وكأنها تمور بالقوة الإلهية... هكذا كانت تبدو ليالي مولد السيد راشد الرواشدي، التي ينتظرها القاصي والداني بفرحة لا تبلغها فرحة إلا ظهور هلال رمضان. دائماً فقراء الكفور والقرى المجاورة يتسحبون إلى البلدة حين تهل ذكرى مولد الشيخ. أول شيخ يقيم له الناس مولداً في حياته، كان موضِعَ تندر به الناس في القرى والنجوع كافة. شيخ يحيا ويدب على الأرض ويقيم له الناس مولداً عظيماً. لقد غزت دودة خبيثة محصول هذا العام، فذهب بعض فقراء القرية إلى مفتيهم الحبيب الذي يعلمون عنه جهره وسره. صوت امرأة الحداد جاء من خلف الصفوف وهي تتضرع إليه أن ينقذهم وأن يسبغ عليهم رضاه. توقف الشيخ قليلاً عن الدعاء، راحت أنفه تتحرك رغماً عنه وهو يستمع لها ويهز رأسه هزات ظهرت جلية لكل العيون المتربصة به، لكنه بينه وبين نفسه كان يعرف أن صوتها ليس أكثر من شبيه بصوت امرأة يحبه. كان الكل يعلم مدى حزن الرجل لرحيل امرأة، حزن لم يُخْفِه أبداً، ليس هو الذي يخفي ما يمور في قلبه. كثير من أهل البلدة والبلاد المجاورة صلوا وراء الأعمى، ويعرفون عشقه للمرأة التي ماتت من دون سبب ظاهر، لكنهم يقدّرونه ويحبونه. لم يتوقف واحد منهم يوماً أمام هذا الحب أو اعتبره تقليلاً من قدر الشيخ. بعد رحيلها اعتكف الشيخ في بيته شهوراً طويلة، تبعتها شهور أخرى من دون أن يخرج للناس. حاول محبوه أن يخرجوه لكنه أبداً لم يخرج. اكتفى المريدون أن يضعوا كل صباح على بابه طعاماً وشراباً. يدقون الباب وينصرفون. يخرج الشيخ من دون أن يلتفت لينظر من جاء اليوم بطعامه. ولما جاء صبح كانت السماء فيه صافية لا غبرة فيها ولا كدرة، خرج الشيخ من خلوته. توضأ وخرج للناس. صعد المنبر ورفع الأذان. اندهش الناس حين تعرفوا على صوته. أقبلوا مسرعين متلهفين. وحين وجدوه واقفاً يستعد لإقامة الصلاة تراصوا خلفه وصلوا. صلى ودعا واستقبل أحبته. وواصل حياته من دون أن يعلق بجملة على رحيل الحبيبة. لكن ما بال الشيطان يضع في أذنيه صوت حبيبته ثانية؟ هل يأمل أن يعيدها الله إليه؟ وهل يعود الموتى حتى لو تضرعنا الأيام والليالي كي يعودوا؟ طرد همسات الشيطان في روحه وواصل الدعاء حتى يذهب البلاء، ولم ينصت مجدداً لصوت المرأة أو أي امرأة. وحين فرغ من الدعاء حمل شجونه في قلبه ودخل منزله من دون أن يرد على الأصوات التي تناديه. في الداخل جلس يستعيد تفاصيل حياته معها. كل شيء بدا حارقاً وموجعاً. كل شيء بدا حياً، كأن لم تمر ليال بكى فيها حتى تقرحت عيناه، كأن لم تمر أيام من دون أن يذوق حتى الماء، كأن لم تمر أيام من دون أن ينصت لكل صوت كأنها ستفتح الباب وتدخل عليه. حتى اصطكاك أوراق الشجر كان يهيج أحزانه. جلس الشيخ الأعمى يحاول طرد طيفها الذي يشعر به يلامس جلده. أمسك المصحف يتلو الآيات بصوت عال حتى يغطي على صوت قلبه الذي اهتز لصوت امرأة تشبه صوت حبيبته التي مضت. دق المريدون بابه، فارتعب. كيف يشعر بالرعب وهو الذي كان يتلو الآيات؟ لام نفسه كثيراً ووقف نافضاً نغزات القلب وفتح الباب. رحب بهم بصوت تعمد أن يكون عالياً حتى يطغى على همس رفيق يمس روحه.