لطالما تساءلت كيف التقت كلمة"مصارعة"بكلمة"حرة"، وعن ذلك الذي عمل على تحقيق هذا اللقاء، إذ إني لا أزال أشعر بأن الكلمتين تتصارعان كلما وجدتا معاً ضمن إعلان أو في متن خبر يوثق مباراة بين ذوي الكتل الصخرية. كنت أتصور أن المصارعة الحرة تجيز للصنديد الأول أن يضرب الصنديد الثاني كيفما يحلو له وأن يرد الثاني الصاع صاعين حرّين. كنت أتوجّع لمجرد التفكير بالأمر. وهذا ما جعلني أتفادى أي"مشكل"، مع زملائي، يتجاوز تبادل التحدي الكلامي إلى نشوب عراك. وبقيت أنأى بنفسي عن المشاكل حتى لحقت بي يوماً. لم أعد أذكر لماذا تواجهنا فريقين عند زاوية الشارع، رفاقي في الحي أمام أولاد الحي الثاني. لكني ما زلت أتذكر العرق البارد الذي تصبب مني لشدة خوفي. بدأ المشكل، كالعادة بتراشق التحديات، ثم بالتدافع مع ألفاظ غير مفهومة. وفجأة، كأن التدافع حمّاني ورفع منسوب الأدرينالين لديّ، فتناولت أحدهم من وسطه و"شقلته"إلى أعلى وطرحته أرضاً."آآخ"، صرخ هارباً مع أولاد الحي الثاني. كدت أبكي وأنا أرى ذلك الصبي يعرج راكضاً. ولما أخذ الندم يغمرني إذا برفاقي يصفّقون ل"هرقل"هم غير المنتظر. وقال لي أحدهم إني استعملتُ في قتالي"لقطة برنس كومالي". ومن هو هذا؟ الجواب أدخلني عالم المصارعة الحرة، أو"الكاتش"عبر تلفزيون لبنان بالأبيض والأسود. الأخوان جان وأندريه سعادة، كومالي، الوحش بوفا ذو القناع، داني لانش، وغيرهم. وأصبحت أنتظر موعد المباريات لأشاهد أبطالي الذين ألهموني، من دون أن أعرفهم أو أشاهدهم، في انتصاري الكبير. ولمدة، اكتنفني شعور بأني قوي أتحمّل أعتى الضربات والأوجاع. ودرجتُ على الزمجرة كأسد البراري، أنقض على الفراش قافزاً من حواف السرير، وأطرح الوسائد أرضاً وأثبّتها حتى"تعلن استسلامها"، فأقف رافعاً ساعديّ محيياً الجماهير... قبل أن أجمد ساكتاً، لاغياً تكشيرة أسناني المنتصرة، إذ ألاحظ وجود أحد والديّ يضحك على أفعالي الرعناء. ألملم سريعاً ذلك"الدمار"الذي خلّفه صراعي مع الأشياء الهزيلة. أمر واحد كان يوقفني عند حدي، صوت أختي الصغيرة التي كانت تزعق كلما هجمتُ عليها."اترك اختك. اعفنا من صوتها. هي لا تبلغ حجم فخذك. تمرجل على أحد من قدّك... يا دب"، كانت تصرخ أمي من ناحية المطبخ. والحق أن صوت أختي وصفة الدب خففا انجرافي إلى القوة واستعمالها في تذليل عقبات الحياة. وعملا على تحجيمي مع مر الزمن. تعقّلتُ ولم أعد أحفل بالمصارعة، بعد أن ارتدت حلّتها الجديدة الفضائحية الصفراء عبر الشاشات... الأخوان سعادة، وقدامى الكاتش، توسلوا القوة العضلية البشرية للصعود بمهنتهم. وكانوا قدوة للأجيال من بعدهم. وبيّنوا أن المصارعة الحرة لم تكن حرة تماماً، ففضلاً عن القوانين التي تحد من حرية توجيه الضربات، كما كنت أعتقد في صغري، هناك حد طبيعي وهو قدرة الإنسان في ميزان قدرة خصمه. وهم بذلك بقوا أوفياء لأبطال الأولمب الغابرين، أيام الإغريق والرومان، الذين خُلّدت بطولاتهم ومآثرهم برسوم على أوانٍ وجِرار خزفية جميلة. جاء عهد ال"سبونسور"أي الراعي وكسر الجرة وهشّم جمالية القوة، وأبطل تخليد الأبطال بعد أن أضحوا يفرّخون تفريخاً.