انتشرت في الأيام الماضية رسائل متبادلة بين الفيلسوف السلوفيني- العالمي سلافوي جيجك وناديا تولوكونينوفا، إحدى مؤسسات فرقة"بوسي رايوت"الروسية أو"القطط المتمردة"، التي تمضي عقوبة بالسجن سنتين في معسكر عمل في الأورال "سنتين صغيرتين"كما قال فلاديمير بوتين تعليقاً على الحكم، هي ورفيقة لها من الفرقة، لتنظيمها حفلة موسيقية"بونك"في كاتدرائية"القديس المنقذ"في قلب موسكو، ولسخرية الأغاني من بوتين. حوكمت الفتاتان بتهمة"إهانة معتقدات المؤمنين"ما يذكِّر بالأحكام الشائعة في منطقتنا عند ملاحقة المناضلين النقديين بتهمة"توهين مشاعر الأمة"ومثيلاتها.... الواقعة معروفة جيداً، وجرت في حينه تغطية واسعة لها في الصحافة العالمية. بلا أثر. وأما حين تنشر مجلة شهرية فرنسية الرسائل المتبادلة مع"النجم"الشهير، ويظهر علاوة على ذلك أن ناديا تلك ندٌ له، تجادله وتغالطه، وتعبّر عن قناعاتها بوضوح ووعي، علاوة على النضالية العالية... حينها تنقلب المعادلة وتخرج من إطار الأخبار المسلية إلى صعيد جدي! في عدد تشرين الثاني نوفمبر الفائت، نشرت المجلة الفرنسية "فيلوماغ"وهي متواضعة المستوى عادة، وحققت هنا خبطة إعلامية، بالاتفاق مع المجلة الروسية"نيو تايمز"وبمساعدتها، الرسائل الست التي استغرق تبادلها سبعة أشهر من كانون الثاني- يناير الى تموز- يوليو 2013 بسبب الصعوبات المرتبطة بالمرور على الرقابة، وأيضاً بسبب الترجمة. وأعادت"الغارديان"البريطانية نشر نصوص مختصرة لهذه المراسلة. فثارت ثائرة مثقفين وفلاسفة من العالم أجمع، أشهرهم إدغار موران وتوني نيغري وريتشارد سينيت وأكسل هانث وهارتموت روزا... وهؤلاء هم اليوم أبرز الفلاسفة المستندين بأشكال متنوعة إلى الإرث الفكري للماركسية، وهم نقديون بجذرية للنظام العالمي المهيمن. ولكن، وقّع إلى جانبهم فلاسفة يمتازون بدفاعهم عن النظام العام القائم، وفعلوا على الأرجح نكاية بروسيا وتمسكاً بقيم يظنونها عالمية شاملة. المهم، أصدر الجميع نداء أوروبياً وعالمياً، نشرته تباعاً صحف"ليبراسيون"الفرنسية، و"الغارديان"البريطانية، و"دي ويت"الالمانية، علاوة على صحف بولندية ودنماركية. كما نشرته صحيفة"ريبوبليكا"الإيطالية في 26-11-2013، أي يوم زيارة بوتين لروما، علاوة على صحف هولندية وكندية وأرجنتينية وبوليفية. وقبل أيام قليلة، نشرته صحيفة"الباييس"الإسبانية، كما استعادت النداء الداعي لإطلاق سراح تولوكونينوفا مواليد 1989، وطالبة فلسفة سابقة في جامعة موسكو وماريا أليخينا مواليد 1988 مواقع روسية. عسى المبادرة تفيد في تخفيف قسوة اعتقال الشابتين اللتين تقدمتا بطلب إخلاء سبيل، فرُفض. ما لا يثير إحباطاً لدى ناديا التي تشير في رسالتها الثانية إلى هاجسها في"تحويل هذه التجربة إلى شيء مفيد لي ولرفاقي، والى مصدر للإلهام والتألق"، كاشفة في هذا التعليق كما في مواضع أخرى من رسائلها عن تصوف تختلط فيه الشيوعية بمسيحية ثورية منحازة إلى"كنيسة البسطاء والأبرياء"، وهي قوية الحضور في روسيا، وترمز إليها كاتدرائية باسيل الطوباوي التي تنتصب في قلب الساحة الحمراء، كما توضح هي بتوسع. يبقى أن التحرك التضامني متنوع الديناميات والأغراض، ومن غير الأكيد أنه يعبِّر لدى كل فاعليه عن وجهة نقدية لمقاربة العالم. وتنجح هذه"السيولة"في جمع كل هؤلاء، بينما هم متنافرون على أكثر من صعيد. وهي تمثل بشكل ما أحد مظاهر تلك الخاصية التي تناولتها ناديا في إحدى رسائلها إلى جيجك، لمناسبة نقاش حول أمر آخر تماماً لا صلة له بالتحركات التضامنية معها ومع فرقتها وما تمثله كظاهرة. كانت ترد على الفيلسوف الشهير حول طبيعة"الرأسمالية المتأخرة"، أي الراهنة، فركزت بشدة على مسلك"المركز الفكري- الدعاوي للنظام الاقتصادي المعاصر الذي يسمح له بتمويه هويته الثابتة والتراتبية". بينما حارَ جيجك في"كيفية مواجهة العدو حين يتبنى الدينامية الثورية؟ لم يعد ممكناً تخريب النظام من الخارج بما انه هو ذاته يقوم بمهمة تغيير ذاته ... إن تمدد الرأسمال، خصوصاً الرأسمال المتأخر الذي نعرفه اليوم، يجعل الحياة العادية كرنفالاً مستمراً"... وترد الشابة بأن"الرأسمالية المعاصرة تريد إيهامنا بأنها تعمل بتوافق تام مع مبادئ الإبداع الحر والتطور اللامتناهي والتنوع. ومصلحتها هي في إخفاء الوجه الآخر للأيقونة". وحول هذه النقطة بالذات تكمن أهمية مداخلات ناديا، وهذه المراسلة عموماً. فهي تجبر الفيلسوف الكبير والأستاذ على التواضع. تنبهه ليس فحسب إلى ما أشار إليه هو نفسه، على شكل اعتذار منها على"لهجته الذكورية المتعالية"، منتقلاً الى الاعتراف بأنهما في هذا النقاش الفكري متساويان وندّان، بل إلى خلاف كبير بينهما، إذ يفوته أن الرأسمالية في المركز يمكنها اعتماد هذا الوجه المتجدد والحضاري والفني والجمالي والخفيف الخ... بالذات لأن في خلفية المشهد أماكن منظَّمة بتراتبية قاسية وثبات، ولا مكان فيها للمزاح ولا للأمزجة. تقول له إن رؤيته للرأسمالية المتأخرة هي"رؤية كولونيالية". ففي هذا النقاش"لم نأخذ في الحسبان الاختلافات والخصوصيات المناطقية في اشتغال الميكانيزمات الاقتصادية والسياسية"، مضيفة أن هذا التجاهل يخجلها. وهي توضح أنه"لولا وجود أماكن اقتصادية حرة، حيث حيز الاستغلال مقونن"، كالذي تعيش فيه في روسيا، ولولا التماسك في اشتغال النظام في بلادها كما في الصين وبلدان العالم الثالث المنتجة للمواد الأولية، والتي توفر الاستقرار لأنظمتها المتسلطة و"الإقطاعية"، وتوفر توزيعاً أو تقاسماً للعمل داخل النظام الاقتصادي العالمي... ولولا ذلك لما أمكن الرأسمالية في المركز أن تموّه وجهها بذلك القناع الهادئ والجذاب. وهي تدعو"المنظّرين الأوروبيين إلى التخلي عن طريقة تفكيرهم القائمة على المركزية الأوروبية والكولونيالية، ليراجعوا الرأسمالية العالمية بكليتها وفي كل مناطق العالم". حينها سيلاحظون أن اللاتراتبية والدينامية الجامحة اللتين ترتديهما الرأسمالية المتأخرة ليستا سوى كذب هائل المدى، وواحد من انجح ما مورس في تاريخ البشرية. وتنهي ناديا كلامها بأن هؤلاء المنظرين، إن كانوا نقديين وليسوا موظفين دعاويين للرأسمالية المتأخرة، عليهم التنبه إلى هذا الإغفال الذي يمارسونه للوضع خارج بلدانهم المركزية، عوضاً عن"استعارة الصورة التي يرغب الرأسمال الكلي في إعطائها عن نفسه، وبناء نظرياتهم الخاصة عليها"! * مقطع من قصيدة"الشراع"لميخائيل ليرمنتوف.