من نافلة"الموت"في غرفة الأخبار، أن يتخيّر المحرر أبشعه. ولأن الموت في بلادنا هذه الأيام كثير، فإن الحكمة لا تخون المحرر في اختيار الأسوأ منه. فحين تتعدد أنواع الموت، يصبح التصنيف من ضرورات ترتيب نشرة الأخبار. ففي غرفة الأخبار، يبقى الحدث عادياً، لا يرفعه إلى درجة الخبر إلا عدد الضحايا."انفجار سيارة مفخخة وسط بغداد"، عنوان لا يتجاوز حدود الخبر العاجل، وحين تأتي التفاصيل،"أن الانفجار لم يوقع ضحايا"، يتراجع الخبر ليكون حدثاً غير ذي قيمة، ويحذف من النشرات المقبلة. ومع استبداد الموت بتفاصيل حياة الكثيرين من سكان الدول العربية منذ سنوات، تكون نوعية الضحايا موضع تصنيف أيضاً."جريحان في إطلاق نار في ميدان التحرير في مصر"يبقى عنواناً عابراً، ما لم يتطور الحادث لاحقاً فيموت فيه كثيرون. في العراق، حيث الموت منذ عشر سنوات ليس ككل موت، يصبح من ضرورات العمل إخضاع نوعيته للتصنيف."مقتل شخصين في تفجير بالفلوجة"عنوان عادي، قد تطاوله يد المحرر بالحذف، إن كان هناك خبر آخر ينافسه يقول:"نصف مليون قتيل عراقي من 2003 وحتى 2011". وحيث يكثر الموت، إلى درجة أن يصبح عنواناً يومياً لوسائل الإعلام منذ سنوات، في بلد مثل العراق، فإن موت شخص أو شخصين أو ثلاثة لا يرفع هذا الموت إلى درجة الخبر. وإن كان القتلى، بالعشرات تحديداً، يكون من ضرورات العمل الانشغال بالخبر. ولأن الموت كثير، فقد تفرعت عنه أنواع. مثلاً،"تفجير يدمر مصنعاً بالعراق من دون سقوط ضحايا"هو خبر عادي، يبث في نشرة، أو نشرتين، قبل أن يختفي من الأخريات. لكن الموت يكمن في التفاصيل، إن كان تدمير المصنع تسبب في قطع رزق مئات العمال، وقد وضعهم وأسرهم على أول طريق الموت. وفي ذلك أنه حين ينصب التركيز على عنوان مختصر، يطفو على السطح عدد القتلى، وتغرق في العمق التفاصيل. يأتيك عنوان خبر الموت من العراق ممهوراً بالرقم، وهو دائماً بالعشرات. ولأن المحرر قد ملّ صوغ العنوان على هذا النحو:"مقتل العشرات في تفجيرات في العراق"، يصبح البحث عن أدوات إبداعية ل"صوغ الموت"أمراً ضرورياً. يَردُ، مثلاً، خبر من إحدى وكالات الأنباء عن أن حصيلة القتلى في يوم ما في العراق بلغت 48 شخصاً. في آخر جملة في الخبر، إشارة إلى أن خمسة منهم قتلوا في تفجير حفل زفاف. في"مساحة الإبداع"المتروكة للمحرر تصبح هذه الجملة هي العنوان، أمام رتابة التناول اليومي للرقم. فالموت المختبئ وسط الفرح هو بالفعل خبر مزدوج الأهمية. وبعد أن ضيق الموت مساحة الحياة في كثير من البلدان العربية، باتت وسائل الإعلام العربية مجبرة على الاختيار من بين أبشع أنواعه، والتعامل فقط مع الوجبات الدسمة منه، والتي يزيد عدد ضحاياها في الحادث الواحد عن العشرة، لأن أفضل الموت لم يعد خبراً، لأنه ببساطة لم يعد موجوداً. موسى الجمل - الإمارات