معروف أن الخلاف بين الصحابة والتابعين عبدالله بن عباس وعلي بن أبي طالب وعبدالله بن مسعود وزيد بن ثابت وشريح الكندي وأبو حنيفة النعمان في إحدى الروايتين ومالك بن أنس وغيرهم حول جواز الوقف وبطلانه ثم حول لزوم الوقف وعدم لزومه وصحة الرجوع عنه وغير ذلك، استمرّ حتى نهاية القرن الثاني الهجري، حين أخذ تلاميذ أبي حنيفة في مخالفة إمامهم في بعض ما ذهب إليه وصولاً إلى كتاب"أحكام الوقف"لقاضي القضاة أحمد بن عمرو الشيباني المعروف بالخصّاف توفي 261ه/ 875م الذي سعى إلى تأريخ بدايات الوقف ووسّع مفهوم الوقف بعدما أفتى بجواز أنواع جديدة وقف الأراضي على ابن السبيل والجهاد، وقف الخانات على دروب الحج، وقف الدور في الثغور للمرابطة، وقف الاكفان... إلخ. وفي ما يتعلق ببدايات الوقف فقد اعتمد الخصّاف كثيراً على الواقدي توفي 207ه/ 823م، المطعون في صحة رواياته إلى حدّ أن ابن حنبل قال عنه"كذاب"بينما قال عنه البخاري"متروك"، حيث يشير إلى إقبال النساء في صدر الإسلام على الوقف إسوة بالرجال. وأصحّ ما لدينا هنا ما يسوقه الخصّاف عن وقف عمر بن الخطاب الذي أسّسه بناء على جواب الرسول محمد صلى الله عليه وسلم لسؤاله عما يفعله ببستان آل إليه بعد فتح خيبر في صفر 7 ه/ أيار مايو 628م"إن شئت حبست أصلها وتصدقت بثمرتها"الذي يُعتبر الأساس الشرعي للوقف في الإسلام، حيث يرد أن عمر بن الخطاب ولّى ابنته حفصة من بعده لتكون متولية على هذا الوقف. ومع أن الفقه الإسلامي لم يميّز بين الرجل والمرأة في ما يتعلق بالوقف باعتباره من أبواب الخير للمجتمع، إلا أن الخصّاف لم يذكر لنا من محيطه العباسي الجديد نماذج محددة عن أوقاف النساء في الوقت الذي نجد في دولة الأدارسة في المغرب الأقصى والدولة الأموية في الأندلس نماذج مبكرة عن قيام نساء ببناء ووقف جوامع مهمة كفاطمة الفهرية التي بنت جامع القرويين في 245ه/ 859م وأختها مريم الفهرية التي بنت جامع الأندلس بفاس أيضاً في السنة ذاتها، والبهاء بنت عبدالرحمن الثاني حكم 206 - 238ه/ 822 - 852م التي بنت في ذلك الوقت المسجد الجامع في الرصافة بقرطبة الخ. ويبدو أن المجتمع العباسي الجديد الذي تميّز بالاختلاط والإكثار من الجواري والعبيد انعكس على قمة الهرم، حيث أكثر الخلفاء العباسيون من الزواج بالجواري الآتيات من خلفيات إثنية وثقافية مختلفة حتى أننا لا نجد سوى ثلاثة خلفاء عباسيين من أمهات عربيات السفاح والمهدي والأمين من أصل 37 خليفة. ويلاحظ هنا أنه مع هذه الموجة الجديدة من الاختلاط ووصول الجواري إلى كواليس الحكم كزوجات للخلفاء وأمهات للخلفاء لدينا موجة جديدة من إقبال زوجات الخلفاء العباسيين وأمهاتهم على المساهمة في الوقف ببناء المنشآت الدينية والعلمية والاجتماعية التي كانت تعزز من وضعهن في المجتمع بالمقارنة مع الجواري اللواتي لم يلدن الأولاد الذكور ولم يحظين بالثروة والمكانة ك"أمهات الأولاد". ولدينا في هذه الحال الجديدة أول وقف للمرأة يرعى أمثال هؤلاء النساء اللواتي حُرمن من نعمة إنجاب الأولاد الذكور وأصبحن في حاجة إلى رعاية، ألا وهو الوقف الذي أسّسته أروى الحميرية القيروانية زوجة الخليفة المنصور وأم الخليفة المهدي التي تزوجها المنصور في القيروان حين كان ملاحقاً من الدولة الأموية وتوفيت عنه في 146ه/ 764م بعد أن بنى بغداد ورسّخ الدولة العباسية الجديدة. معركة خفية وفي ما يتعلق بصاحبة هذا الوقف الرائد تشير المصادر إلى أنها بنت منصور بن عبدالله الحميري الذي كان انتقل من اليمن إلى القيروان في 110ه/ 709م واتخذها موطناً. وقد وصل أولاً إلى القيروان هرباً من ملاحقة الأمويين عبيدالله بن العباس، فحلّ في بيت منصور وتزوج ابنته أروى وعاش معها إلى أن توفي في حدود 120ه/ 719م بعد أن أنجب ابنة منها. وقد وصل بعد ذلك ابن عمّه عبد الله بن العباس هارباً من ملاحقة الأمويين فنزل أيضاً في بيت منصور وانبهر بجمال أروى وخطبها فاشترط عليه والدها"ألا يتزوج غيرها وألا يتخذ السرايا معها"وإلا فإن طلاقها بيدها على عادة أهل القيروان الصداق القيرواني. وكان ذلك في أواخر عهد هشام بن عبدالملك 105 - 125ه/ 724 - 743م من دون أن يدري أن الدنيا ستتقلب لمصلحته ويصبح بعد حوالى عشر سنوات خليفة في بلاط مليء بالجواري. ومن هنا، فقد اهتمت المصادر من باب التندّر بالمعركة الخفية التي دارت بين أروى القيروانية وزوجها الجديد عبدالله الذي أصبح خليفة بلقب المنصور بسبب محاولة الأخير التملص من الشرط الذي تقيّد به، أي"ألا يتزوج عليها ولا يتسرى"، إذ كان المنصور يكتب إلى الفقهاء في الحجاز والعراق يستفتيهم في الزواج والتسري ولكن أروى كانت له بالمرصاد دوماً تسبقه إلى أولئك الفقهاء وترسل لهم الأموال ولذلك، لم يفتوا للمنصور بما كان يرغب به. هكذا، تركز هذه المصادر على معاناة المنصور في ذلك حتى وفاة أروى القيروانية في 146ه/ 764م، حيث"أهديت له مائة بكر لصبره عليها طيلة حياتها". ولكن أروى كانت قد أنجبت للمنصور ابنه محمد، الذي تولى الخلافة بعده بلقب المهدي 158 - 169ه/ 778 - 785م. من هنا، قد نفهم تركيز المصادر على نصيحة المنصور وهو على فراش الموت لابنه المهدي بعدم الأخذ برأي النساء"إياك أن تدخل النساء في مشورتك في أمرك". وفي ما يتعلق بالوقف الرائد لأروى القيروانية فكان أول من كشف عنه في حدود علمنا المؤرخ التونسي حسن حسني عبدالوهاب 1884 - 1968 في كتابه الرائد"شهيرات التونسيات"الذي صدر في تونس 1934، بالاستناد إلى الإشارة اليتيمة عنه التي أوردها الجاحظ توفي 255ه/ 868م في كتابه"المحاسن والأضداد"، وذهب إلى أنه"من آثار أروى التي خلّدت ذكراً دائماً وحسنة باقية على الدهر". وفي الوقت نفسه اهتمّت بأروى ووقفها الباحثة الأميركية من أصل عربي د. نبيّة عبّوط 1897 - 1981، التي كانت من الرائدات في البحث عن دور المرأة في المجتمع الإسلامي الجديد. وتجدر الإشارة هنا إلى عبّوط كانت أول امرأة تنضم في 1933 إلى معهد الدراسات الشرقية في جامعة شيكاغو وتصدر في 1942 كتابها الأول بالإنكليزية"عائشة الزوجة المحبوبة لمحمد"ثم كتابها الثاني في 1946"ملكتان في بغداد: والدة وزوجة هارون الرشيد"وغيرهما من الدراسات التي أبرزت الدور الذي لعبته المرأة في صدر الإسلام والدولة العباسية. وفي كتابها الثاني"ملكتان في بغداد"أشارت عبّوط إلى هذا الوقف الرائد لأروى القيروانية بالاستناد إلى ما أورده الجاحظ في"المحاسن والأضداد"للجاحظ، من دون أن تدري عن كتاب عبدالوهاب. وبالعودة إلى كتاب"المحاسن والأضداد"نجد أن الجاحظ القريب العهد من أروى القيروانية توفي بعد حوالى قرن من وفاتها يذكر ما شاع في المصادر لاحقاً عن الشرط الذي كتبته أروى على زوجها بعدم الزواج عليها والتسرّي ومعاناة زوجها للحصول على فتوى تخليه من ذلك الشرط"حتى ماتت بعد عشر سنين من سلطانه ببغداد فأهديت إليه مائة بكر". ولكن الجاحظ يسوق هنا ما سكتت عنه المصادر والدراسات لاحقاً، ألا وهو أن المنصور أقطع زوجته أروى"الضيعة المسمّاة بالرحبة"ف"وقفتها قبل موتها على المولدات الإناث من دون الذكور، فهي وقف عليها إلى هذا الوقت"ص 213 من طبعة دار الهلال، بيروت 1991. ويلفت النظر هنا تعبير الجاحظ الذي يختتم به ما أورده عن هذا الوقف الرائد لأروى القيروانية الذي استمر"إلى هذا الوقت"، أي إلى وقت تأليفه كتاب"المحاسن والأضداد". * أستاذ التاريخ في جامعة العلوم العالمية الإسلامية بعمّان