هي أروى الحميرية القيروانية زوجة الخليفة المنصور وأم الخليفة المهدي، أبوها منصور الحميري من وجهاء اليمن الذين استقروا في القيروان، تزوجها المنصور في القيروان حين كان ملاحقاً من الدولة الأموية، فنزل سرا بأبيها وهناك انبهر بجمالها وذكائها، وخطبها لأبيها فاشترط عليه «ألا يتزوج غيرها وألا يتخذ السرايا معها» وإلا فإن طلاقها بيدها على عادة أهل القيروان تحت ما يسمى (الصداق القيرواني)، وظل أبو جعفر المنصور ملتزما بالشرط حتى بعد توليه الخلافة، إلى أن توفيت عنه في 146ه/ 764م بعد أن انجبت له أحد خلفاء بني العباس. والصداق القيرواني هو نمط من عقود الزواج كان منتشرا على نطاق واسع في المغرب العربي والأندلس، حيث تشترط الزوجة عدم الزواج أو التسري عليها، وإلا فإن بامكانها مفارقة الزوج إذا أخل بهذه الشروط. وشروط عقد الزواج مجازة من جمهور الفقهاء، (ويأخذون بمبدأ صحة الشروط المقيِّدة للعقد، إذا كانت مما يقتضيه العقد، أو يلائمه، أو ورد الشرع بجوازه بنص خاص، أو جرى العرف عليه). وعادة فإن هناك ارتباطا شرطيا ملازما بين تحضر ومدنية الشعوب والمكانة التي يُنزلون بها النساء، وعندما كانت الأندلس هي واسطة عقد العالم الإسلامي وموضع نخبته، احتلت المرأة مساحة مرموقة في الفضاء المدني الأندلسي في الكثير من المجالات أبرزها كعالمة وفقيهة ومتصدرة للفتوى كعائشة القرطبية ونزهون بنت القلاعي الغرناطية وسارة الحلبية وسواهن كثير، ويقول ابن حزم فقيه الأندلس في كتابه طوق الحمامة (وهن علمنني القرآن وروينني كثيرًا من الأشعار ودربنني في الخط). بالطبع هذا الحضور الكثيف الفاعل للمرأة الأندلسية انعكس على مدونة الأندلس الفقهية في ذلك الحين، فظهرت عقود الزواج المنصفة للنساء والمترفقة بهن والمستجلبة لمودتهن، والتي مع الأسف الشديد نجدها الآن مختفية تماما عن الخطاب الفقهي المطروح والمتداول حولنا منذ مئات السنين. و(عقود الزواج الأندلسية) كانت تجيز للمرأة الأندلسية عددا من الشروط أوردها د. جاسر أبو صفية في كتابه (حقوق المرأة في البرديات العربية)، حيث رصد ووثق العديد من مخطوطات عقود النكاح لتلك المرحلة وأورد بعض نصوص تلك العقود مثل: (وطاع الناكح المذكور لزوجه المذكورة، بعد أن ملك عصمتها، استجلابا لمودتها، وتقمنا لمسرتها، ألا يتزوج عليها، ولا يتسرى معها، ولايتخذ أم ولد، فإن فعل شيئا من ذلك، فالداخلة عليها بنكاح أو مراجعة طالق، والسرية وأم الولد حرتان، وألا يضرها في نفسها، ولا في أخذ شيء من مالها، وألا يغيب عنها أزيد من ستة أشهر إلا في أداء حجة الفريضة، وألا يرحلها من موضع إلا برضاها، وألا يمنعها من زيارة أهلها، فإن فعل شيئا من ذلك فأمرها بيدها). المفارقة الآن أنه لا إشارة لهذا النوع من العقود لا من قريب ولامن بعيد، ولا حتى على سبيل الاستنارة والاستضاءة بها والرجوع إليها في بعض الفتاوى، والتي لو وظفت لكانت اساسا شرعيا متينا منصفا تنطلق منه (مدونة حقوق الأحوال الشخصية) في عصرنا الحاضر. أين أروى القيروانية، ونشاط المرأة الأندلسية عن الخطاب الفقهي الحاضر والمرجعيات الفقهية المسرفة في تشددها ضد النساء، الهاضمة لحقوقهن المغفلة لمكانتهن؟ أين الفقيهات الأندلسيات.. من اللواتي نصبن أنفسهن داعيات وواعظات للنساء..فانحصرت مهمتهن بالإشارة إلى عدد المقاعد التي تنتظر النساء في جهنم؟ أين أروى القيروانية وصويحباتها الأندلسيات في خطابنا الفقهي المعاصر؟ لمراسلة الكاتب: [email protected]