دماغ لانزا "تصدّع" بين التوحد ولعبة "كول أوف ديوتي" ضربت مرة أخرى وأخرى. وأسالت الدماء والأحزان والأفكار مجدداً. وربطت بين مآسٍ تكاد ترتسم معلماً أساسياً ومأسوياً للعصر الرقمي. إنها الألعاب الإلكترونية، بل الأحرى القول إنها العلاقة المقلقة بين هذه الألعاب الافتراضية من جهة، وأنهار العنف والدم في العالم الفعلي من جهة اخرى. في أميركا المعاصرة، تنقلت هذه العلاقة بين مدرسة كولمباين وجامعة فرجينيا وسينما المركز التجاري لبلدة"أورورا"في كولورادو، ومدرسة"نيوتاون"الابتدائية. فصلت بضع سنين المقتلة الأولى في"كولمباين"التي رافقت بداية انتشار الإنترنت في أميركا، ومجزرة كلية الهندسة في جامعة فرجينيا. ولكن، لم تنقضِ سوى شهور قليلة على المقتلة التي نفذها جايمس هولمز في كولورادو مرتدياً أزياء من وحي شخصية الجوكر في فيلم"صعود الفارس الأسود"واللعبة الإلكترونية التي رافقته، وبين المجزرة التي ذهبت أسرارها مع انتحار منفذها آدم لانزا الذي كان يرتدي ملابس وحدات خاصة في الجيش الأميركي، كما تظهر في لعبة"كول أوف ديوتي"Call of Duty ترجمتها"نداء الواجب". أكثر من هذا، على رغم قسوة هذه المأساة وتجدد النقاش في الحق في حمل السلاح في أميركا، تواترت أنباء عن"إجهاض"تهديدات بارتكاب مجازر مماثلة، ظهرت على الإنترنت! نقاش متجدد في عنف الشاشات أدت جريمة إطلاق النار في مدرسة ابتدائية في ولاية"كونيتيكت"الأميركية، إلى تغير في النقاش القديم حول مدى تأثير الأفلام العنيفة، والعروض التلفزيونية والموسيقية، وألعاب الفيديو، في جرائم تستخدم فيها أسلحة نارية قاتلة، بحسب ما لاحظ مقال نشرته"فايننشال تايمز"أخيراً. ولاحظت الصحيفة أن دوافع المذبحة في مدرسة"نيوتاون"ليست واضحة، كما أن التفسيرات البسيطة لخلفياتها ليست كافية، لكن تقارير المحققين أفادت بأن القاتل المسلح مارس لساعات لعبة"نداء الواجب"وهي إحدى ألعاب الفيديو الدموية، قبل ارتكابه المجزرة. وحركت هذه التقارير اهتمام المشرعين الأميركيين بدور ألعاب الفيديو في انتشار العنف، بل شرع بعضهم في إعداد مشروع قانون لدرس تأثير ألعاب العنف الافتراضي وبرامج العنف التلفزيوني، على الأطفال. تشي مأساة المدرسة الأميركية بمدى تأثير منتجات الثورة الرقمية على الصحة النفسية للناشئة. وذهب أحد المفكرين الفرنسيين، وهو فريديريك سيرو، الى القول بأن الثورة الرقمية تنشئ شباباً مُختلفاً عن أجيال الشباب التي سبقته، بل ربما طاول الاختلاف الجنس البشري برمته. وبحسب سيرو، باتت الأجيال الجديدة تمضي معظم أوقاتها مع ال"آي باد"الألواح الإلكترونية والكومبيوتر الحاسوب وال"سمارت فون"الهواتف الذكية وغيرها. وتحرك هذه العلاقة التي صارت تبدأ من المهد، سؤالاً كبيراً عن تأثير هذه الأجهزة على تطور هذه الأجيال. ورسم سيرو سيناريو عن عيش الأجيال الشابة راهناً. وقال:"يتابع الولد وهو في شهره الخامس عشر، عبر"سمارت فون"أمه، يوميات العطلة الصيفية التي أمضياها في كورسيكا. ولد آخر، أكبر منه بقليل، يستيقظ في السادسة والنصف من كل صباح بفضل"أحد أفضل أصدقائه"المدعو"آي باد". وتستوضح تلميذة في المرحلة المتوسطة معلمتها:"ما جدوى التعلم طالما أن كل شيء منشور على"ويكيبيديا"؟ فيما يرمي تلميذ متمرد دفتر دروس اللغة محتجاً على انتقاد أبيه بالقول:"... وأنت أيضا تستعمل المصحح اللغوي الإلكتروني". تبدي شابة جميلة في الصف الثانوي انزعاجاً من لزوم الكتابة بقلم الحبر الجاف، ثم تتمتم:"أليس من الأحسن لو نقدر على استخدام الكومبيوتر في الصف؟". إبنة معلمين مرموقين، تتحول في الليل إلى شخصيتها الافتراضية كي تشارك في النقاش على ال"ويب". فتية آخرون لا يخلدون إلى النوم بفعل مواظبتهم على"تكستر"و"تويتر"و"تشاتر"، فيما آباؤهم... نيام". ثورة"النشوة الرقمية" في عام 2012 صار من المألوف تعرض حياة الأطفال، منذ اللحظات الأولى، إلى تحولات غير مسبوقة."تجري الثورة الرقمية على نطاق البشرية كافة، بمعنى أن لا شيء سيكون مثلما كان في السابق"، بحسب الطبيب النفسي الفرنسي بوريس سيرولنيك، الذي لم يتردد في القول:"لدينا طفرات حقيقية. أطفالنا اليوم يبصرون النور على عالم رقمي، يبدأ منذ ما قبل الولادة بالتقاط صور صوتية ثلاثية الأبعاد للجنين"! وأضاف:"في كل مكان، ثمة شاشات رقمية و"آي باد"وأقراص ألعاب إلكترونية وأجهزة كومبيوتر، و"سمارت فون"وغيرها. ويطوف الأطفال بينها بكل بهجة، حتى قبل أن يتمكنوا من تعلم النطق. وحينما يدخلون المدرسة، يتعايش الأطفال خمس ساعات يومياً كمعدل وسطي، مع منتجات الثورة الرقمية وأدواتها. أما في الثانوية، فإن كلاًّ منهم يمسك بحاسوب محمول معظم الوقت، ويرسل عبره، وبلغة مخادعة، قرابة 83 رسالة نصية قصيرة يومياً كمعدل وسطي"! كيف نظن أن هذه الأدوات الفاتنة الحديثة ليس لها أي تأثير على أدمغة المنخرطين في العيش معها؟ ربما لم يعجب هذا السؤال البعض واصفاً إياه بأنه على"الطراز القديم"، لكن يصعب الامتناع عن طرح أسئلة عما ستكون عليه أحوال هذه الأدمغة الفتية التي تتغذى من العالم الافتراضي، طوال الوقت و... طيلة العمر؟ هل يستحيل التفكير بأن هؤلاء المراهقين واقعون تحت تأثير"النشوة الرقمية"التي ترشح من جنبات هذه العوالم؟ ما أثر هذا على تطورهم وذكائهم وطريقة تفكيرهم. انقسام رقمي في أميركا منذ سنوات، اندلع جدال انقسامي بين أنصار الثورة الرقمية وخصومها في الولاياتالمتحدة وأوروبا الشمالية، ينوء تحت وطأة الحجج المشبعة بالأيديولوجيا. إذ نظر المؤيدون بدهشة إلى"أجيال المواليد الرقميين"، بحسب وصف العالِم التجريبي الأميركي مارك برينسكي. ورأى أنها تبدو أكثر فضولاً وحيوية ورشاقة وسرعة. وقال:"إنهم ينضحون بالثقة بالنفس. لنلاحظ أن الثورات التقنية تبعث على القلق دوماً، حتى سقراط وأمثاله كانوا قلقين من"ويلات"الكتابة على ذاكرة الشعوب. في المقابل، يسير التاريخ من دون رجعة". لكن بعضهم لا يستطيع الامتناع عن طرح الأسئلة، على غرار سوزان غرينفيلد، وهي أستاذة علم الخلايا العصبية في جامعة أُكسفورد التي اشتهرت ببحوثها حول مرض"ألزهايمر". وتقول:"يجب أن نقارن ما نعيشه اليوم مع ظاهرة التغير في المناخ، إذ يقف الأطفال على خط متشابك، بأثر من ممارسة التصفح المستمر لل"ويب"واللعب على الشبكات الافتراضية. وتالياً، يتعرض دماغهم وهو في طور النمو، لنشاط هائل يتسبب باضطراب تطورهم". واستطراداً، من الصعب عدم تذكر هذه الكلمات عند معرفة أن آدم لانزا كان مُصاباً بأحد أصناف مرض"التوحد"وهو النوع المُسمى"أسبرغر"Asperger، فكيف تفاعل دماغه المضطرب أصلاً، مع ممارسته الألعاب الإلكترونية العنيفة بشكل متواصل؟ وكذلك رأت غرينفيلد أن أطفال العصر الرقمي يُظهرون أعراضاً يصعب عليها أن تتجاهلها، مثل ضعف التركيز، وقلة التواصل مع الآخرين، واضطراب التعبير عن المشاعر، إضافة إلى البلادة العاطفية. وتوصل الصحافي الأميركي نيكولاس كار، وهو حائز جائزة"بوليتزر"، إلى استنتاج مُشابه طرحه عبر كلمات مجازية تقول:"في المياه الضحلة: ماذا تفعل الإنترنت بأدمغتنا"؟ وفي نفسٍ مُشابه تأتي كلمات صحافي أميركي تلفزيوني، هو جو سكاربوره الذي يقدم برنامج"إم إس إن بي سي مورنينغ"، الذي قال سكاربوره إن ألعاب الفيديو العنيفة والمذهلة للعقول وأفلام هوليوود البشعة، تبلد إحساس اللاعبين والمشاهدين، ما يضعهم قيد تحدي الحفاظ على صحتهم ذهنياً. ولعل الأكثر جدة في هذا المجال هو سعي بعض مهووسي التقنية الرقمية في"وادي السيليكون"الأميركي، تأسيس مدارس من نوع خاص تعلم عبر الشاشات الرقمية، سموها"والدورف سكولز"Waldorf Schools. ثمة من يرى أن الخلاص يكمن في العودة إلى القواعد الأساسية، بمعنى ضرورة تنظيم ألعاب تُمارَس بأدوات خشبية، واستخدام الصلصال لصنع الأشكال، وممارسة الحياكة، واستخدام اللوح الأسود والطبشور التقليديين في التعليم وغيرها. فرنسا حصن ... اللامبالاة ؟ ثمة إهمال مستغرب لبعض الأسئلة في فرنسا، وهي بلد التنوير، فكأنّها في غفلة عن مجيء المولود الرقمي."سألت بعض التلامذة:"كم من الوقت تمكثون أمام الشاشات"، فنظروا إليّ ككائن آتٍ من كوكب آخر". كتب هذه الكلمات أستاذٌ يدرّس الأدب الفرنسي في ثانوية"دي إيفلينز". وأضاف:"عندما أبلغت أولياء التلامذة بأن أبناءهم يقضون قرابة 5 أو 6 ساعات يومياً على الشاشة، ظنّوا أنني أريد الاستقالة، فكأنني أقول اننا عاجزون عن فعل أي شيء". ورد هذا الأمر في مقال للصحافية الفرنسية صوفي دي ديزير عنوانه"أطفالنا هؤلاء المتحوّلون"، ونشرته مجلة"لو نوفيل أوبسرفاتور"بعيد مجزرة"نيوتاون". حتى وقت قريب بقيت اللامبالاة حيال هذه القضايا منتشرة في الأوساط المدرسية والسياسية والنخبوية الفرنسية. في 20 تشرين الثاني نوفمبر الماضي، رفعت مفوضة حماية الطفولة إلى الرئيس الفرنسي تقريراً حول إشكاليات العصر الرقمي. بعدها، قرّرت"أكاديمية العلوم"الفرنسية أن تبحث هذه القضية في 20 كانون الثاني يناير 2013، تحت عنوان:"دماغي في مواجهة الشاشات". وفي بحوثه حول"كيف يتشكّل الذكاء"، لا يقول العالم البلجيكي أوليفيه هوديه، وهو اختصاصي في علم الأعصاب، أن هذا الأمر كارثي، لكنه يؤكد قوة تأثير الشاشات على أدمغة الأطفال الصغار، وأنها تحمل خطراً على طُرُق تكييف ذكاء الإنسان. هناك طلب مذهل على هذه"السموم"الرقمية المُخدّرة، في فرنسا، كما في معظم البلدان الغربية. وأظهرت الأرقام أن أعلى مبيعات ألعاب الفيديو على موقع"أمازون.كوم"عام 2012، هي"كول أوف ديوتي"Call of Duty، ثم"هالو 4"Halo 4، و"بلاك أوبس II Black Ops II"، و"أساسنز كريد III Assassin"s Creed III". وفي أميركا، تصّدرت أفلام على شاكلة"ذي آفانجرز"The Avengers و"ذي دارك نايت رايزس"The Dark Knight Rises"شبابيك التذاكر هذا العام، وهي الأفلام مشبعة بالوحشية والدماء، تملك ألعاباً إلكترونية مماثلة لها. شاشات مغرية تولّد سلوكاً إدمانياً ثمة شبه إجماع على القول إن مقدار الوقت الذي يمضيه الطفل أمام الشاشة، يحدّد مدى تأثيرها فيه. وكذلك يساهم في تحديد قوة هذا التأثير، وجود أو غياب بالغ يرعى هذا الطفل، ويتابع المواد التي تنهال على عينيه. وبحسب المقال المُشار إليه آنفاً من ال"فايننشال تايمز"، برهن عدد من الدراسات الغربية، أن بعض البرامج التربوية يمكنه أن يعجّل في تعلّم القراءة، كما تضاعِف ألعاب الفيديو القدرة على"التنبّه الانتقائي" Selective Attention، وتفعل أمراً مُشابِهاً بالنسبة إلى القدرة على مراقبة الأشياء وتتبّعها، شرط أن تمارس هذه البرامج باعتدال. ويثير هذا الكلام مشكلة كبرى تتمثّل في أن الشاشات مُغرية، بل تقدر على توليد سلوكيات إدمانية لدى جمهورها! في هذا الصدد، أوضح جان لوك مارتينو، وهو اختصاصي في علم النفس التربوي ومدير البحوث في"المؤسسة العامة للبحث العلمي والتقنية"اختصاراً"إنسيرم"INSERM في فرنسا، أنه استناداً إلى دراسة أوروبية لسلوكيات تلامذة ثانويين ألمان، لوحظ لديهم شغف بالغ بألعاب الفيديو، وعقب ممارستهم الألعاب الإلكترونية بما يربو على تسع ساعات أسبوعياً، لوحِظَت لديهم زيادة في الجزء المركزي من الدماغ، وهو منطقة ترتبط بآليات التعويض والمتعة. ورأى مارتينو أن من المستطاع القول إن ألعاب الكومبيوتر تحفز إحدى المناطق الأكثر بدائية في الدماغ التي تتولى أيضاً تنسيق المعلومات الآتية من قشرة الدماغ، وهي مساحة لتخزين معلومات مختلفة. ومن المستطاع قراءة مزيد من التفاصيل عن هذه الدراسة عبر الرابط الإلكتروني: u1000.idf.inserm.fr. وأشارت بحوث مارتينو أيضاً إلى أن أدمغة ممارسي الألعاب الإلكترونية والمثابرين على تصفّح الإنترنت، تُفرِزُ منبّهاً نفسياً قوياً، هو مادة ال"دوبامين"المتّصلة بالإحساس بالنشوة، على غرار ما يحدث في أدمغة مدمني التبغ والكوكايين والكحول والقمار. ومن الواضح أن هذا الإدمان بات موضع رهان كبير في أسواق الألعاب الإلكترونية! ففي العام 1999، كشفت لجنة حكومية أميركية أن شركات الأفلام والموسيقى والألعاب تتعمّد تسويق مواد للأطفال تنطوي على عنف ضمني، أو عنف صريح. هل يصير الإدمان الرقمي مجرد"مشكلة عائلية"، أم أن مكافحة"السموم الرقمية"باتت أمراً مطروحاً على المجتمع المدني والحكومة، بل على مجمل النظام الاجتماعي؟ إعداد راغدة طراف