صوتُك سريري المتحرك، أحلامي العميقة، أرقي المزمن، تقلُّبي على فراش الوحشة، عقاقير نومي، استيقاظاتي المُفاجئة، أضغاثُ وسادتي، وذَهبُ عتمتي. صوتك مصعدي إلى أعالي النشوة، إلى بياض يجلوه بياض، وحرائق مهلكة منقذة، إلى سماء تعلو على أعمدة صوتك. صوتك نيرانٌ صديقة، هبّة باردة، هبّة ساخنة، شتاءٌ عاصف، كأسٌ حارقُ الكآبة وكستناء ألفة، هسيسُ الحَطب في نزعه الأخير كمن يئن لفراق حارقيه. صوتك حلوى المنزل، ضيافة بيتية معجونة بخميرة الترحاب، موسيقى الاستقبال وقصائد الوادع. صوتك قهوة الصباح، صباح القهوة والسكاكر والعمال المتفائلين بنهار أقلّ شقاء، ضحكةُ الشارع الطويل، رذاذٌ على الوجه، فرحُ طفل بشجرة ميلاد. صوتك كهفُ هدايا، قهقهةُ سانتا وغزلان العيد، ثلج يهمى بحرارة على أرض تصدح أجراسها في الحب كما في المآتم. صوتك ردائي و لؤلؤتي في آن، حبل الإنقاذ وحبل المشنقة! صوتك أحوالُ البلاد، شجنُ الشعوب، حلمُ المستَضعفين بالخلاص، نداءُ المسجونين والفقراء، وصفعةُ السماء على خد الظالم والظلام. صوتُك بلادي الضاحكة من فرط الأحزان، مواكبُ الشهداء، وأقواس النصر، زغرودة والدة ترقص كطائر مذبوح، وانتظارات النساء لنهاية الحرب. صوتك معطفي الشتوي، مظلات أيلول الملونة، موقدة كانون الثاني، طقطقة مزراب في صباح قروي، ومطر ناعم على رأس بيروت. صوتك رحمةُ الله الواسعة، وعدُ الضالين بالجنة، حلمُ التوابين بالعودة، برهان الموقنين والشكّاكين معاً. صوتك باعث الغبطة في المسامع والرجفات المتلاحقة في البدن، فاتحُ الممالك والمدائن، وحلمُ الجنود بالعودة سالمين. صوتك كثافة الأضداد: فرح الميلاد وفجيعة الفقدان، وحشة القبر وأبواق القيامة. صوتك الريحُ وضدها، النسيم وحدّ السيف، ربابة بدوي في تيه الصحراء، وجاز أفريقي في زقاق نيويوركي. صوتك البياض الكاشف الناصع المبهر في حلكة الهزيع، والسواد الدافئ الحاضن الحامي المتستر على أحبته و حواسه. صوتك تفاحتي الأولى ولا ضرورة لأفعى ولا لبقية الحكاية! صوتك عراؤك المطلق وعريك التام، حقيقتك، جوهر حقيقتك، في اللحظة التي يتدفق فيها من بين شفتيك المائيتين يكشف حالتك وأحوالك كلها. فلا حولَ لك معه ولا قوة. مرات يأتي جارحاً كنصل لامع، ومرات يهفهف كجناح فراشة، مرات يمر كحد شفرة مسمومة ومرات كرماد ناعم. صوتك صخب بيروت حتى وهي ترتدي ثوب الحداد، أو زفاف الأبيض المتوسط لأنوثة الماء. صوتك مسجدي وسجودي وبوصلة قلبي إلى قبلة مشتهاة. صوتك جامع أنبيائي وأئمتي وقديسيَّ وشهداء العشق منذ ما قبل العشق والشهادة. أحياناً يخيل لي أن حواسك وأعضاءك كلها جنود صوتك. يخجل يخجلون، يفرح يفعلون، يدمع ينكسرون، يضحك يرقصون، يرقص يحلقون عالياً في فضائه مطلقين صيحات النصر وطيش الطفولة. "لو كنت في الزينة، لو كنت في العيد والمغارة، كنت أنزلُ في المدخنة، أتركُ لك الهدايا والعلب، آخذ ضحكتك و أمضي في مطاف البلاد، أرنُّ، أرنُّ لسلام الأرض والكائنات...". صوتك... وأظلُّ أسمعه حتى عندما تصمتين!