عرفت المسيحية في تاريخها الطويل ثلاثة انشقاقات كبرى، تفصل بين كل منها قرابة 500 عام. حدث الأول في القرن الخامس الميلادي، حينما انقسم العالم المسيحي في الشرق إلى قسمين: كنيسة بيزنطة في جانب، وكنائس الإسكندريةوالقدس وأنطاكية في جانب ثان. وحدث الثاني في منتصف القرن الحادي عشر بين الكنيستين الرومانية/ اللاتينية الكاثوليكية والبيزنطية/ اليونانية الأرثوذكسية. أما الانشقاق الثالث فتمثل في حركة الإصلاح الديني ضد كنيسة روما ونشأة البروتستانتية في القرن ال16 في غرب أوروبا. وفي حين حدث الانشقاق الأول لأسباب لاهوتية/ عقدية في المقام الأول والأخير، بعدما اتهمت الكنائس البيزنطية/ اليونانية السريان في بلاد الشام والعراق والأقباط في مصر بتحريف العقيدة الأرثوذكسية في يسوع المسيح كإله حق وإنسان كامل، حدث الانشقاقان الثاني والثالث لأسباب: سياسية/ زمنية في المقام الأول، بسبب المنافسات بين الأباطرة والباباوات في روما وبيزنطة، وثقافية/ حضارية في المقام الثاني لاختلاف اللغة بين اللاتينية في روما واليونانية في بيزنطة، ولاهوتية/ عقدية في المقام الثالث في شأن الخلاف حول فكرة الخلاص بالإيمان وحده وطريقة انبثاق الروح القدس. قد يكون مجرد مصادفة تاريخية أن يحدث الانشقاق الأول عندما كانت الإمبراطورية الرومانية في الغرب تئن تحت وطأة هجمات القبائل الجرمانية البربرية على حدودها وتلفظ أنفاسها الأخيرة على أيديهم، بعدما تمكن القائد الألماني أودفاسر من خلع رومولس أغسطس آخر أباطرة الإمبراطورية الرومانية الغربية في عام 476 ميلادية، لكن الأمر المؤكد هو أن الانشقاق الثاني حدث عندما كان النفوذ الجرماني مسيطراً في روما. فالكاردينال همبرت 1010 - 1061 الذي أخذ على عاتقه إصدار حكم الطرد من رحمة الكنيسة ضد البطريرك البيزنطي ميخائيل سيرولاريوس 1045 - 1058، كان من أهل اللورين، بينما كان النورمان هم الذين جعلوا من إمكانية عودة الوئام بين روما وبيزنطة أمراً مستحيلاً، وأكثر من هذا فقد كان الجنود المشاركون في الحملة الصليبية الرابعة والذين نهبوا القسطنطينية عام 1204، ووضعوا في نعشها المسمار الأخير، أتوا في غالبيتهم من شمال فرنسا والفلاندر وبلاد الراين. وانطلق الفرسان الجرمان المسيحيون التابعون للإمبراطورية الرومانية المقدسة، وتجارها، في رحلات لاكتشاف شرق البلطيق، وإقامة مدن متحالفة معهم إلى الشمال من ألمانيا، وقام المبشرون الجرمان بنشر المسيحية بين السلاف الوثنيين على المذهب الكاثوليكي، فاصطدموا بنظرائهم اليونانيين الذين كانوا يبشرون أيضاً ولكن بالمذهب الأرثوذكسي. أما الأمر الأكثر تأكيداً فهو أن الانشقاق الثالث حدث بأيدٍ جرمانية لا تشوبها شائبة، فمفجر ثورة/ حركة الإصلاح الديني هو مارتن لوثر 1483 - 1546 المولود في مقاطعة ساكسونيا في ألمانيا. فرضت ثورة لوثر الانشقاق بعنف رداً على مفاسد ممارسات كنيسة روما، في ما يتعلق بصكوك الغفران، وأدت هذه الثورة، المدعومة بالروح الاستقلالية للأمراء الألمان، إلى فقدان كنيسة روما مناطق واسعة في شمال أوروبا وغربها. وتوافقت خطوط/ حدود الانفصال بين البروتستانتية والكاثوليكية تقريباً مع"Limes"الرومانية القديمة، وهي خطوط الدفاعات/ التحصينات على حدود الإمبراطورية الرومانية. وكان لهذا الانشقاق في المسيحية الغربية بين الكاثوليك والبروتستانت ثلاثة تداعيات مهمة ينبغي التذكير بها لأن أزمة اليورو الحالية أعادت تفجيرها ثانية: 1 - تعجيل عملية انقسام أوروبا إلى دول كثيرة قامت على أسس قومية في الغالب، إذ تطابقت البروتستانتية مع الجماعات ذات العصبية القومية الواحدة في كل إقليم، خصوصاً في إنكلترا واسكتلندا وهولنداوألمانيا، ونلمس في كتابات لوثر، خصوصاً المكتوبة باللغة الألمانية، وفي أدبيات الصراع صدى لحب ألمانيا وتمجيدها وكراهية"الأجانب"وازدرائهم ? والمقصود هنا الإيطاليون ? والذي تردد على مدى أجيال كردِّ فعل على هيمنة الكنيسة الكاثوليكية وتحيزها للعصبية الرومانية. وفيما بعد أصبحت القومية مصدراً لحروب وصراعات دموية أوصلت أوروبا والعالم إلى حربين عالميتين مدمرتين. 2- جرى تفسير ازدهار الرأسمالية وتطورها استناداً إلى فضائل المذهب البروتستانتي، وساعد على شيوع هذا التفسير ركود أوروبا البحر الأبيض المتوسط، التي تعد المهد الأصلي للحضارة الغربية، والذي امتد لقرون، بالمقارنة مع شمال القارة، إذ إن الكاثوليكية والأرثوذكسية المهيمنتين على منطقة الجنوب المشمس وكثرة الحروب مع العثمانيين المجاورين، وعدم وجود الموانئ الأطلسية التي كانت تطل على العالم الجديد منذ فترة طويلة، كلها تسببت في هبوط دول البحر المتوسط إلى ركود نسبي. 3- أدى انقسام أوروبا ونشأة الدولة القومية بعد صلح فستفالن عقب حرب الثلاثين عاماً 1618 - 1648 بين الكاثوليك والبروتستانت إلى تطوير مفهوم"توازن القوة"، ذلك المفهوم الذي تحركه حسابات القوة أكثر مما تحفزه القناعات الدينية، وكانت القاعدة الذهبية لهذا المفهوم هي الحيلولة دون انفراد دولة ما بفرض هيمنتها على الدول الأوروبية الأخرى، ولم تكن هذه الآلية وليدة المهارة السياسية والديبلوماسية للملوك والوزراء بمقدار ما كانت عملية نصف واعية تفرضها عليهم ضرورات التوازن التلقائي. وكانت بريطانيا هي الوحيدة التي تستطيع، من دون أخطار كبيرة، ممارسة لعبة"توازن القوى"انطلاقاً من جزيرتها. لقد وقفت طويلاً ضد فرنسا وتحالفت بصفة آلية مع أعدائها، مثلما فعلت مع لويس الرابع عشر في أوائل القرن ال18 ونابليون في أوائل القرن ال19، لكن، عندما أصبحت ألمانيا قوية جداً بعد اكتمال عملية توحيدها وانتصارها في حرب السبعين ضد فرنسا، ونموها الاقتصادي والديموغرافي الكبير بداية من تسعينات القرن التاسع عشر، ظهر التقارب بين بريطانياوفرنسا الوفاق الودي 1904، ثم التحالف بينهما ضد ألمانيا فيلهلم الثاني في الحرب العالمية الأولى، وألمانيا هتلر في الحرب العالمية الثانية. ولم يكن هناك مانع أيضاً، في إطار سياسة"توازن القوى"من التحالف مع الشيطان نفسه، مثلما حدث في تحالف فرنسا مع"الشيطان"العثماني في مواجهة الإمبراطورية الرومانية المقدسة في القرن ال16، وتحالف بريطانياوفرنسا مع"الشيطان"السوفياتي ضد ألمانيا النازية في القرن العشرين. هذه الحروب القومية أضعفت أوروبا تماماً، وكان من نتيجة ذلك أن القارة العجوز لم تعد قاطرة العالم، كما كانت على مدى خمسة قرون خلت، ما شجع الخارج عليها، بل زاد الأمر سوءاً أنها صارت ميداناً لاستقطاب أيديولوجي حاد بين شيوعية الاتحاد السوفياتي السابق ورأسماليةالولاياتالمتحدة خلال الحرب الباردة، ولعل ذلك ما دفع كثيرين إلى التفكير في أوروبا موحدة، تعيد الاعتبار للقارة العجوز في الخارج، وتعيد بناء ما دمرته الحرب في الداخل، وقبل هذا وذاك احتواء ألمانيا وترويضها، عبر دمجها ضمن أوروبا الغربية التي لم تكن أبداً جزءاً منها في شكل كامل في الماضي. هكذا، خرجت إلى الوجود"مجموعة الفحم والفولاذ"التي أنشئت بمقتضى اتفاقية باريس في 1951، وانضمت فيها إلى جانب فرنساوألمانيا دول البنيلوكس هولندا وبلجيكا ولوكسمبورغ وإيطاليا، وفي عام 1957 تم توقيع معاهدة روما لتأسيس السوق الأوروبية المشتركة. وساعد على إنجاز هذا الطموح عاملان مهمان:"التهديد"السوفياتي في الشرق، و"التأييد"الأميركي في الغرب. فقد شُكل"الناتو"أصلاً من أجل الإبقاء على ألمانيا تحت السيطرة، ثم من أجل منع الروس من الدخول، والإبقاء على الأميركيين في الداخل. وطوال الستين عاماً الماضية تقريباً، ظل طموح ألمانيا الأكبر ألا يكون لها طموح كبير، فبعد خسارتها الفادحة في حربين عالميتين مدمرتين عكفت البلاد في المرحلة اللاحقة على بناء نفسها والعودة مجدداً إلى الحظيرة الأوروبية مكتفية بالتركيز على تأهيل اقتصادها المتداعي بعد الحرب المعجزة الاقتصادية الألمانية في خمسينات القرن العشرين وستيناته بقيادة لودفيغ إرهارد، وفي الوقت نفسه ترك أمور قيادة أوروبا إلى دول أخرى مثل فرنسا المعاهدة الألمانية - الفرنسية بين ديغول وأديناور عام 1963، وتدشين محور بون - باريس، والحقيقة أن المسعى الألماني أثبت نجاحاً مبهراً إلى درجة أنه من مفارقات التاريخ الكبرى عودة ألمانيا إلى ما كان يُفترض ألا تصل إليه وهو الهيمنة على أوروبا، فالتحولات والتطورات التي طرأت على أوروبا منذ انتهاء الحرب الباردة في تشرين الثاني نوفمبر 1989، وإعادة توحيد ألمانيا في تشرين الأول أكتوبر 1990، وانهيار الاتحاد السوفياتي السابق في كانون الأول ديسمبر 1991، أدت إلى بروز ألمانيا كأقوى البلدان الأوروبية اقتصادياً وأكبرها ديموغرافياً 82 مليون نسمة في مقابل نحو 58 مليون نسمة لكل من بريطانياوفرنسا وإيطاليا، كل على حدة. وسياسياً ورثت ألمانيا مناطق نفوذ الاتحاد السوفياتي السابق في وسط أوروبا وشرقها ومدت سيطرتها الاقتصادية عليها، وهما معاً ? الوحدة والنفوذ - هزّا بعمق التوازن الإقليمي الأوروبي الموروث منذ الخمسينات الماضية لمصلحة ألمانيا. إن تقسيم ألمانيا والتهديد السوفياتي وحلف شمال الأطلسي والاتحاد الأوروبي والشعور بالذنب حيال فظائع الحرب العالمية الثانية على امتداد نصف القرن الماضي، كلها ساهمت في قمع التفرد الألماني، غير أن الحقيقتين الأوليين قد تلاشتا، والحقائق الثلاث الأخيرة قد تتلاشى عما قريب. أزمة اليورو مشكلة ألمانية وبعد الأزمة المالية اليونانية وظهور الهيمنة المالية الألمانية، تتوجس أوروبا مرة أخرى مما يسمى بالمشكلة الألمانية. ويبدو أن المقولة القديمة عن أن ألمانيا عملاق اقتصادي لكنها قزم سياسي قد ولت من دون رجعة، فالعالم بات في عصر تتحول القوة الاقتصادية إلى سلطة سياسية. لذا، ليس غريباً أن تتحول ألمانيا إلى عملاق سياسي. وهو ما يطرح قضية"الدور الألماني"في أوروبا، وهي قضية كانت ولا تزال تؤرق أطرافاً أوروبية عدة، خصوصاً من جانب بريطانياوفرنسا. وتعمد الأخيرة، في أسلوب انفصامي، وكما حدث كثيراً في الماضي، إلى المراوحة بين انتقاد بريطانيا لتخليها عنها حيناً، وبين مدح ألمانيا من أجل استرضائها حيناً آخر، وحيناً ثالثاً تحاول فرنسا العودة إلى سياسات"توازن القوى"وبناء"كابوس التحالفات"ضد ألمانيا عبر: العودة للجناح العسكري للناتو وتوقيع اتفاق"مالمو"للتعاون النووي مع بريطانيا كما فعل ساركوزي 2011، والتحمس لإشراك روسيا في منظومة الأمن الأوروبي. خلقت أزمة اليورو خلافات بين الأوروبيين دفعتهم ليصبحوا أكثر عدوانية، بل أكثر قومية مرة أخرى، وتحولت نغمة اللباقة التي حافظ عليها الشركاء الأوروبيون لعقود عدة إلى حملة من تبادل الشتائم، وصلت إلى حد وصف الألمان لليونانيين بأنهم كسالى وفاسدون. في المقابل، لجأ اليونانيون إلى تاريخ ألمانيا النازي فاتهموا الألمان بأنهم مدينون لليونان ببلايين الدولارات كتعويضات للحرب 160 بليون يورو. وعندما سافرت بعثة أوروبية يقودها ألمان لأثينا في تشرين الأول 2011، لتقديم مساعدة تقنية مصحوبة بإصلاحات اقتصادية، فإن اليونانيين سرعان ما أطلقوا على أعضاء تلك القوة اسم"غاولايتر Gauleiter"، وهو الاسم الذي كان يطلق على ممثلي الولايات الألمانية في عصر النازية. وفي إرلندا والبرتغال، ينقسم الجمهور حول ما إذا كان يتعين النظر إلى المساعدة الألمانية على أنها خطة مارشال ألمانية حديثة، أم هي معاهدة فرساي لكن، من دون حرب هذه المرة. ولطالما اعتبر الألمان اليونان وإيطاليا والبرتغال وإسبانيا مناطق دافئة وملائمة لقضاء العطلات أو التقاعد ولكن، ليس للعمل أو العيش أو إنشاء أسرة، والشعبية التي تحظى بها هذه الصورة النمطية في عام 2012 تضاهي ما كانت عليه في عام 1880. وتشير الصحف الأوروبية الآن بمرارة إلى"رايخ رابع"، وإلى زعماء نازيين متعجرفين جدد يملون الشروط على مرؤوسيهم الأوروبيين، وتصور الرسوم الكاريكاتورية الشعبية الألمان مع تحياتهم النازية المتشنجة وصلبانهم المعقوفة، وهم يقومون بإرساء قواعد سلوكية جديدة للشعوب التي يفترضون أنها أقل شأناً منهم. واعترف رئيس الوزراء الإيطالي ماريو مونتي، خلال مؤتمر ميونخ حول الأمن الأوروبي الذي سيطرت عليه أزمة منطقة اليورو، في شباط فبراير الماضي، بأن الأزمة أثارت المخاوف والأحقاد والاختلافات بين دول الشمال والجنوب والدول الكبيرة والصغيرة، وحذر من أن ذلك يمثل خطراً أكبر من الأزمة نفسها، مضيفاً: أننا لا نحتاج إلى ظهور شبح الماضي مرة أخرى في أوروبا. والحاصل الآن هو أن أزمة العملة الموحدة باتت على درجة من الخطورة، تجعلها تمثل ثالث لحظة خلال المئة عام الأخيرة تجد فيها ألمانيا نفسها في وضع يمكنها من تقرير مصير أوروبا في شكل أحادي، حيث كانت المرة الأولى عام 1914، والثانية عام 1939، وهذه الحقيقة التاريخية هي التي تثقل في الوقت الراهن على وعي الألمان وتتحكم في فعلهم أو"عدم فعلهم". ففي مؤتمر ميونخ للأمن في شباط 2012، لمّح روبرت زوليك، مدير البنك الدولي السابق إلى أن ألمانيا في حاجة إلى إظهار المزيد من القيادة، وكان رد توماس ميتسر وزير الدفاع الألماني على ما قاله هو إنه عندما يدعو الأنغلو - ساكسون إلى المزيد من القيادة الألمانية، فإن ما يقصدونه"ليس المزيد من القيادة في الحقيقة، وإنما المزيد من الأموال الألمانية". ويعكس رد وزير الدفاع الألماني الطريقة التي يفكر بها الكثير من الألمان الذين يعتقدون أن بلدهم يتعرض للعنات، إذا قاد، وللعنات أيضاً عندما يمتنع عن القيادة، وهذا المأزق عبرت عنه المستشارة أنغيلا مركل بالقول:"إذا لم نتولَّ القيادة يتهموننا بانعدام الالتزام الأوروبي، وإذا توليناها يتهموننا بإلقاء ثقلنا على أوروبا"، وقد بدأ الألمان يدركون أنه يتم النظر إليهم في أوروبا على أنهم"قوة لا غنى عنها"، لكن الألمان سرعان ما اكتشفوا تناقضاً: فالأوروبيون قد يطالبون بالقيادة الألمانية، لكنهم لا يريدون في الوقت نفسه أن ينقادوا للألمان. ومع ذلك، فلو انهار اليورو، سينظر إلى ذلك على أنه كان نتاجاً لخطأ ألمانيا وليس نتاجاً لأخطاء اليونان أو حتى إسبانيا وإيطاليا. وإذا ما سعت ألمانيا لتجنب اللوم، والتداعيات الاقتصادية المحتملة لانهيار اليورو، فستتعرض لأخطار هائلة قد تتجاوز قدرتها على التحمل. والشاهد أن ألمانيا تواجه في الوقت الراهن خياراً صعباً: فإما أن تتخلى عن أرثوذكسيتها الاقتصادية، وبقايا أفكار السيادة الوطنية، أو أن تواجه انهياراً لليورو يطلق سلسلة من التفاعلات في صورة إفلاس مالي وركود اقتصادي أو تفكك سياسي وأفول حضاري لأوروبا. * كاتب مصري