Christine Ockrent. L'Europe Racontژe a mon Fils. L'Erope: de Jules Cژsar a L'Euro. أوروبا محكيةً لابني - أوروبا: من يوليوس قيصر الى اليورو. Pocket, Paris. 2001. 170 Pages. ظاهرة جديدة تعرفها الثقافة الفرنسية في السنوات الأخيرة: المؤلفات التبسيطية التي يضعها مشاهير الكتاب والاعلاميين برسم ابنائهم وبناتهم، والتي تتناول الظاهرات الايديولوجية الكبيرة للعصر. وعلى هذا النحو رأت النور تباعاً كتابات تحمل أمثال هذه العناوين: الاصولية مفسرة لابني، العنصرية مشروحة لابنتي، العولمة معروضة لحفيدي، وهكذا دواليك. في هذا السياق نفسه أصدرت كريستين اوكرنت، وهي من أبرز الوجوه الاعلامية الفرنسية - وان تكن من أصل بلجيكي - "أوروبا محكية لابني". وهذا الكتاب، الاخاذ بأسلوبه وبساطته معاً، يحكي المغامرة الأوروبية على مدى ألفي سنة من التاريخ وصولاً الى مشروع الوحدة الأوروبية كما بدأ يتجسد عملياً في توحيد النقد والغاء العملات القومية الأوروبية لصالح اليورو. والواقع ان أوروبا، التي تبدو واحدة اليوم، تتجلى من خلال كتاب كريستين اوكرنت وكأنها "أوروبات". - أوروبا الفينيقية هي أولى هذه الأوروبات. ففي الأساطير التي تداولها الاغريق القدامى عن النشوء التاريخي لأوروبا وتسميتها بهذا الاسم ان زفس، كبير آلهة اليونان، عشق أميرة فينيقية جميلة، هي ابنة اجنور ملك صيدا وصور، فاختطفها واقتادها الى اليونان، فصارت أوروبا تدعى باسمها. وتعترف كريستين اوكرنت بانها تجهل دلالة هذا الاسم. ولكن بالعودة الى اشتقاقه السامي يمكن فهمه بسهولة. فالأميرة اللبنانية، المختطفة الى الغرب، سميت في الأساطير الفينيقية، "الغرابة"، ومنها جاء - مع بعض التحريف - اسم أوروبا. ولكن فينيقية اوروبا الأولى هذه لا تقتصر على الاسم وحده. فشقيق الأميرة، قدموس اشتقاقياً الآتي من "قدام"، أي الشرق، ركب البحر العريض بحثاً عن اخته، وحيثما رست سفنه في السواحل الأوروبية من البحر الأبيض المتوسط انشأ مدينة وترك فيها بعضاً من رجاله. وعلى هذا النحو زرع المتوسط بالمدن التي تحمل، في أسمائها بالذات، علامة انتمائها الفينيقي: طيبة وكركور كورفو، في اليونان، ترشيش وقادش وبرشلونة في اسبانيا، وايليا في ايطاليا، وربما مرسيليا في فرنسا. ولم يورث الفينيقيون أوروبا اسمها وبعضا من أقدم مدنها فحسب، بل أورثوها ايضاً أبجديتهم. - أوروبا الرومانية. فللرومان تدين أوروبا بوحدتها السياسية الأولى. فعلى اثر انتصار الرومان في موقعة آليزيا التاريخية سنة 52 ق.م. توغلت جيوش يوليوس قيصر في فرنساوالمانيا والبلدان الواطئة وصولاً الى انكلترا. وقد أورث الرومان اوروبا - فضلاً عن الوحدة السياسية والادارية - لغة ثقافية موحدة هي اللاتينية، وعملة موحدة هي الدانق - دولار الأزمنة القديمة - وقانوناً موحداً هو القانون الروماني، وشبكة موحدة من الطرق يصل طولها الى نحو من مئة ألف كيلومتر. - أوروبا الشارلمانية. فبعد سقوط الامبراطورية الرومانية ارتدت أوروبا الى وضعية مزرية ودخلت من جديد في عصر الغاب، في الوقت الذي انحصرت فيه الحضارة في القسم الشرقي من الامبراطورية الرومانية، أي بيزنطة وبلاد المشرق. شارلمان، أي شارل العظيم، كان أمياً وأقرب الى قاطع الطريق منه الى العسكري المحترف. ومع ذلك فقد كان يحلم بإعادة بناء الامبراطورية الرومانية، وبسط ملكه من فرنسا الى ايطاليا الى اسبانيا الى ايطاليا. وفي عام 800 للميلاد حقق حلمه اذ استحصل من بابا روما على لقب "امبراطور الغرب"، وراح الشعراء يتغنون به بوصفه "ملك أوروبا وأباها". ولكن الامبراطورية الشارلمانية لم تعمر من بعده. فغداة وفاته عام 814م، شرع أولاده وأحفاده يتقاتلون ويتوزعون أشلاءها. ومن جديد تفتت أوروبا وغرقت في ظلام القرون الوسطى. - أوروبا النهضوية. فما بين القرن التاسع والقرن الخامس عشر لم تعرف أوروبا أي شكل من أشكال الوحدة السياسية، بل عاشت حالة تمزق رهيب وصراع بين الورثة الفرنجيين والجرمانيين لشارلمان مما أورث أوروبا ذلك الانقسام وذلك العداء المؤرّث بين العالم اللاتيني والعالم الجرماني، والذي سيترجم عن نفسه في القرن العشرين بالحربين العالميتين الداميتين اللتين فجرهما - في واقع الأمر - الصراع التاريخي المديد بين فرنساوالمانيا. ومع ذلك فإن القرون الوسطى الأوروبية شهدت - رغم التمزق السياسي والسلالي - نوعاً من الوحدة الثقافية تمثلت بوحدة اللغة اللاتينية كلغة للثقافة العالمية، وبانتشار ظاهرتي الجامعات والكاتدرائيات. وكان على أوروبا ان تنتظر القرن الخامس عشر لتنضو عنها ثوبها القروسطي ولتدشن مرحلة جديدة في تاريخها، كما في تاريخ البشرية جمعاء، هي مرحلة عصر النهضة. وقد تحكمت بمولد النهضة الأوروبية تطورات رئيسية أربعة: 1- حركة الترجمة عن المخطوطات العربية التي جعلت أوروبا تكتشف الثقافة اليونانية من جديد بعد قطيعة دامت نحواً من ثمانية قرون. 2- اكتشاف غوتنبرغ للمطبعة مما نقل أوروبا من حضارة الكتاب المخطوط الى حضارة الكتاب المطبوع، وعمم بالتالي الثقافة وجردها من طابعها النخبوي. 3- الفتوحات العلمية الجديدة كوبرنيكوس، غاليليو التي قوضت التصور اللاهوتي القديم للكون ونقلت أوروبا من ثقافة متمركزة عل الله والسماء الى ثقافة متمركزة على الانسان والأرض. 4- اكتشاف قارتي العالم الجديد: أميركا واوستراليا، مما أسهم بدوره في تقويض التصور التقليدي للعالم القديم وأغدق في الوقت نفسه أطنان الذهب على القارة الأوروبية وغيّر اتجاه مركزيتها من العالم المتوسطي الى العالم الأطلسي. - أوروبا التنويرية. فعصر النهضة قاد أوروبا الى عصر الأنوار، أي العصر الذي لم تعد تعلو فيه على سلطة العقل أي سلطة أخرى، ولا سيما السلطة الكهنوتية التي كانت شهدت انفصاماً جذرياً مع الانشقاق البروتستانتي عن الكنيسة الكاثوليكية. وبالاضافة الى ثورة العقل شهد القرن الثامن عشر الأوروبي ثورة التقنية التي ستتأدى ابتداء من القرن التاسع عشر الى الثورة الصناعية وتبلور طبقة جديدة في التاريخ هي الطبقة البورجوازية التي ستكون بمثابة الحامل الاجتماعي لنظام الرأسمالية الذي انفردت اوروبا بتطويره. - اوروبا النابوليونية. فنابليون، الابن اللاشرعي للثورة الفرنسية، تصوّر نفسه في دور يوليوس قيصر جديد او شارلمان عصري يعيد توحيد اوروبا عن طريق العسكر. وعلى هذا النحو دفع بالجيوش الفرنسية، في نوع من حرب صاعقة، نحو ايطالياوالنمساوالمانيا وبولونيا واوروبا الشرقية وصولاً الى روسيا نفسها. ولكن بدلاً من امبراطورية اوروبية، فانه لم يفلح الا في ان يؤسس امبراطورية عائلية. فقد وزع اخوته واخواته واصهاره على عروش اسبانيا وهولندا ووستفاليا وايطاليا والسويد. وكذلك وبدلاً من نزعة قومية اوروبية موحدة فانه لم يفلح الا في اطلاق شيطان القوميات والوطنيات المحلية من عقاله، واصطدمت جيوشه في كل مكان من اوروبا بمقاومات شعبية اخذت شكل نزعات قومية معادية لما امكن تسميته منذ ذلك الحين ب"الامبريالية الفرنسية". وليس من قبيل الصدفة انه في عصر الفتوحات النابوليونية ذاك رأى النور مفهوم الدولة القومية، اي في سياق ذلك العصر الدولة الشوفينية التي تعتقد نفسها متفوقة على جيرانها، ومن حقها ان تحمي نفسها منهم بإضعافهم واحتلال ارضهم. وعلى هذا النحو وكردّ فعل على الامبريالية الفرنسية، رأت النور الامبرياليات البروسية والنمسوية والروسية، فضلاً عن الامبريالية البريطانية الطالبة للهيمنة على البحار، لا على البر الاوروبي. - اوروبا الامبرياليات هذه هي التي قادت القارة الاوروبية الى اكبر مجزرتين في تاريخها، بل في تاريخ البشرية: الحرب العالمية الاولى بالتسعة ملايين من قتلاها، والحرب العالمية الثانية بالتسعة والاربعين مليوناً من قتلاها. وقد تزامنت اوروبا الامبرياليات هذه مع اوروبا الايديولوجيات بتوزيعها الرباعي: الديموقراطية في غربي اوروبا والنازية في وسطها والفاشية في جنوبها والشيوعية في شرقها. - اوروبا الاقتصادية. فقد كانت تجربة الحرب العالمية الثانية تجربة قاسية للغاية، ولا سيما انها لم تخلص من الانقسام الايديولوجي، بل عزّزته بمدّ الهيمنة الايديولوجية الى اوروبا الشرقية من خلال الانظمة الدائرة في فلك الاتحاد السوفياتي. والى داخل الديموقراطيات الغربية نفسها من خلال تصاعد نفوذ وشعبية الاحزاب الشيوعية، ولا سيما في فرنساوايطاليا. ثم ان خندقاً من الحقد المؤرث كان قد انحفر بين اكبر جارين في اوروبا الديموقراطية: فرنساوالمانيا. وانما في هذا السياق تفتّق ذهن رجل يدعى جان مونيه وكان مسؤولاً عن ادارة التخطيط في وزارة الاقتصاد الفرنسي عن فكرة عبقرية. فما دامت الايديولوجيات هي التي قادت اوروبا الى هلاكها، فان اي تفكير ببناء وحدة اوروبية لا بد ان ينطلق من قاعدة محايدة ايديولوجياً، اي الاقتصاد تحديداً. وعلى هذا النحو اقترح ان يكون الفحم، الذي تنتجه مناجم فرنسا وتستهلكه مصانع المانيا، هو حجر الاساس في بناء الوحدة الاقتصادية الاوروبية. وهكذا رأت النور في عام 1951 "الاسرة الاوروبية للفحم والفولاذ" التي ما لبثت ان تطورت في 1957 الى "الاسرة الاقتصادية الاوروبية" التي ضمت في بادئ الامر ست دول اوروبية المانياوفرنساوايطاليا وهولندا وبلجيكا واللوكسمبورغ قبل ان تنضم اليها عام 1973 ثلاث دول اخرى هي بريطانيا وايرلندا والدنمارك ثم توسعت اسرة التسعة الى اثني عشر بانضمام اليونان واسبانيا والبرتغال عام 1986. وفي 1992 رأى النور "الاتحاد الاوروبي" ووجد تعبيره الاقتصادي بانشاء السوق الاوروبية الموحدة عام 1993. وبانضمام النمسا وفنلندا والسويد عام 1995 صار "الاتحاد الاوروبي" يتألف من خمس عشرة دولة. واوروبا الخمس عشرة هذه هي التي قررت توحيد العملات الاوروبية واطلقت مشروع اليورو في مستهل عام 1999 ليدخل قيد التداول العملي في مستهل عام 2002. واليوم يشكل اليورو اكبر رمز لاوروبا الموحدة. ولكنه ليس رمزاً كافياً. فليست العملة كل الاقتصاد وليس الاقتصاد العامل الوحيد للهوية الاوروبية. ورغم النجاح الاول لعملية اطلاق اليورو، فإن المغامرة الاوروبية لا تزال في بدايتها، مثلما لا تزال اوروبا الموحدة برسم الاختراع. والتحدي الاكبر الذي تواجهه هو ان تحسم العلاقة بين الهوية والقومية. فحتى الامس القريب كانت القومية في اوروبا هي التي تحدد الهوية. واليوم بات يتعين على الهوية الاوروبية ان تحدد نفسها بلا احالة الى القومية.