بدأت الأزمة الاقتصادية التي تعصف بالاتحاد الأوروبي في التسبب في ظهور أشكال من الاحتجاج وأحقاد تعود إلى الماضي تطرح الكثير من التساؤلات حول مستقبل الاتحاد. ففي 25 نيسان (أبريل) الماضي قررت اليونان مطالبة ألمانيا بتعويضات عن الحرب العالمية الثانية، تُقدر ب 162 بليون يورو. ويأتي قرار أثينا في أعقاب حملة تتعرض لها ألمانيا في الكثير من دول أوروبا وبخاصة الجنوب مثل البرتغال وإيطاليا وإسبانيا علاوة على اليونان تتهمها بإجبار هذه الدول على التقشف، وكانت جمعيات وأحزاب سياسية يونانية هي التي بدأت بمطالبة ألمانيا بالتعويض عن الخسائر التي لحقت بالبلاد خلال الحرب العالمية الثانية، لكن الأمر تطور إلى أن تبنت الدولة اليونانية الفكرة وطرحت رسمياً مطالبة ألمانيا بتعويضات عن سنوات الاحتلال النازي. خلقت أزمة اليورو خلافات بين الأوروبيين دفعتهم ليصبحوا أكثر عدوانية، بل وأكثر قومية مرة أخرى، وتحولت نغمة اللباقة التي حافظ عليها الشركاء الأوروبيون لعقود عدة إلى حملة من تبادل الشتائم والاتهامات المتبادلة، لكن الملاحظ أن هذا التلاسن وصل إلى درجة غير مسبوقة بين الألمان واليونانيين، وصل ذلك إلى حد تقريع الألمان وتوبيخهم لليونانيين ووصفهم بأنهم كسالى وفاسدون. واقترح المسؤولون الألمان على اليونان بيع بعض الجزر لتسديد الديون. وفي المقابل، لجأ اليونانيون إلى تاريخ ألمانيا النازي فاتهموا الألمان بأنهم «ورثة هتلر»، وظهرت في بعض وسائل الإعلام اليونانية ملصقات ولافتات تظهر فيها السيدة أنغيلا ميركل مرتدية ثياب ضباط ألمانيا النازية، وأثار اقتراح مسؤول ألماني كبير في كانون الثاني (يناير) 2012، إرسال مفوض معين من قبل الاتحاد الأوروبي لتسيير أمور الموازنة اليونانية غضباً شديداً لدى مختلف فئات الشعب اليوناني، التي رأت أن هذا الاقتراح يمس السيادة الوطنية لليونان ويهين كرامة شعبها، فمهمة المراقب الاقتصادي المقترح في أثينا تماثل، في نظرهم، الحكام العسكريين (Gauleiter) الذين كان الألمان ينصبونهم على البلاد التي كانوا يحتلونها خلال الحرب العالمية الثانية، واعتبروا المقترح عدائياً تجاه اليونان من طرف «الرايخ الرابع». وجاءت الأزمة المصرفية في قبرص اليونانية لتنكأ جراح اليونانيين عموماً، إذ اعتبر الرئيس القبرصي نيكوس اناستاسياديس عواقب هذه الأزمة كعواقب الغزو التركي في 1974 والذي طرد ثلث السكان من ديارهم وقسم الجزيرة إلى قسمين. كان المتوقع أن تتعامل القوى النافذة في منطقة اليورو مع أزمة قبرص كما تعاملت من قبل مع أزمات إسبانيا وإيطاليا والبرتغال واليونان، إلا أنها لم تفعل، وفضلت أن تكون قبرص «عبرة» لبقية دول منطقة اليورو المهددة بأزمات مالية، على رغم أن إنقاذها كان سيكلف ما لن يزيد على عشرة بلايين يورو، وهو مبلغ بسيط إذا ما قورن بالمبالغ التي خصصت لإنقاذ اقتصاديات إسبانيا واليونان وغيرهما. فجاء رد فعل الشعب القبرصي على الإجراءات القاسية التي فرضت عليه عنيفاً، تركز أغلبه على ألمانيا، الأمر الذي دفع من جديد بموجة أخرى من العداء لألمانيا في معظم أنحاء جنوب القارة. في 19 نيسان الماضي شبه كريستوس باتساليديس وكيل وزارة المال القبرصية معاملة ألمانيا وصندوق النقد الدولي لبلاده بإطلاق قنبلة نووية لقتل حمامة، قائلاً إنهما دمرا نظاماً اقتصادياً كان ناجحاً، واصفاً البنوك العالمية بأنها «قوات احتلال» لا تعبأ بحقوق الإنسان. وحتى عندما حلم القبارصة بحل روسي ينقذ اقتصاد بلادهم، وينقذ في الوقت نفسه الاستثمارات والودائع الروسية في بنوك قبرص (استثمارات روسية مباشرة وصلت عام 2011 إلى 22.4 بليون دولار، وودائع لشركات روسية تصل إلى 25 بليون يورو)، تنكرت روسيا لحليفتها الأرثوذكسية لأنها أدركت أن ألمانيا، وقيادات اقتصاد منطقة اليورو، قررت القضاء على جميع المواقع التي تمنح المودعين إعفاءات من الضرائب، وأغلبها أموال تكدست بفضل ممارسات فساد وتجارة غير مشروعة. والواقع أن لألمانيا مكانة خاصة في تاريخ اليونان، مكانة لا تُحسد عليها على كل حال، إذ يتذكر اليونانيون أن الانشقاق بين الكنيستين البيزنطية والكاثوليكية حدث عندما كان النفوذ الجرماني مسيطراً في روما. فالكاردينال همبرت (1010- 1061) الذي أخذ على عاتقه إصدار حكم الطرد من رحمة الكنيسة ضد البطريرك البيزنطي ميخائيل سيرولاريوس (1045- 1058)، كان من أهل اللورين، بينما كان النورمان هم الذين جعلوا من إمكان عودة الوئام بين روما وبيزنطية أمراً مستحيلاً، وأكثر من هذا فقد كان الجنود المشاركون في الحملة الصليبية الرابعة والذين نهبوا القسطنطينية عام 1204، ووضعوا في نعشها المسمار الأخير، قد أتوا في غالبيتهم من شمال فرنسا والفلاندر وبلاد الراين. وانطلق الفرسان الجرمان المسيحيون التابعون للإمبراطورية الرومانية المقدسة، وتجارها، في رحلات لاكتشاف شرق البلطيق، وإقامة مدن متحالفة معهم إلى الشمال من ألمانيا، وقام المبشرون الجرمان بنشر المسيحية بين السلاف الوثنيين على المذهب الكاثوليكي، فاصطدموا بنظرائهم اليونانيين الذين كانوا يبشرون أيضاً بالمذهب الأرثوذكسي. ويتذكر اليونانيون أيضاً قصة «الحلف المقدس» (بريطانيا وروسيا وبروسيا (ألمانيا في ما بعد) والنمسا وفرنسا) بزعامة رئيس الوزراء النمساوي الشهير كليمنس فون مترنيخ Klemens von Metternich الذي أراد في عام 1832 تهدئة الاضطرابات في اليونان بعد فشل وأد ثورتها ضد الأتراك العثمانيين عقب هزيمة الأسطولين التركي والمصري في موقعة نافارين البحرية عام 1827، فاختاروا النبيل الألماني (البافاري) فون أوتوVon Otto ليتولى حكم اليونان بدعوى منحها حُلّة من الاحترام والمهابة الملْكيين بعد منحه التفويض اللازم لاستخدام القسوة المناسبة مع شعب عُرف عنه العنف والتمرد، فهو يعتبر نفسه سليل حضارة عريقة تشكل مهد الحضارة الغربية الحديثة، لذا حينما جنح أوتو بحكمه نحو الأوتوقراطية أجبرته ثورة شعبية عام 1843 على اعتماد دستور للحكم أقره الشعب عام 1844، ولكن، سرعان ما أعاده معاونوه البافاريون إلى الأوتوقراطية ما دفع الشعب إلى الثورة مرة أخرى، وأجبر أوتو عام 1862 على النزول عن العرش، ليخلفه عام 1863 الأمير جورج الدنماركي الذي حكم بموجب الدستور المعتمد من الشعب عام 1864 مدة خمسين سنة. الألمان والعثمانيون ويتذكر اليونانيون أن ألمانيا (الرايخ الثاني) كانت حليفاً صريحاً لتركيا العثمانية، العدو التاريخي لليونانيين، في الحرب العالمية الأولى، كما يتذكرون أنه على رغم حياد بلادهم في الحرب العالمية الثانية، مثل تركيا، لكن دول المحور (ألمانيا وإيطاليا واليابان) اعتدت عليها، ففي 28 تشرين الأول (أكتوبر) 1940، قام الحليف الفاشي لألمانيا النازية، إيطاليا، بمهاجمة اليونان، ولكن الجيش اليوناني صد الإيطاليين وحملهم على التراجع إلى ألبانيا الخاضعة لسيطرة إيطاليا. ثم تلت ذلك هدنة موقتة. وفي هذه الأثناء، كانت ألمانيا، التي كانت قد احتلت رومانيا وبلغاريا جزئياً، تستعد ل «عملية بارباروسا»، (غزو روسيا)، حيث كانت تعمل على تجميع نحو ثلاثة ملايين من جنودها وجنود حلفائها في رومانيا والمجر وبلغاريا، ثم شن الجيش اليوناني هجوماً مضاداً على الإيطاليين، فاجتاح ربع ألبانيا وأسر 28 سجيناً. وحينئذ، قامت القوات الألمانية بغزو اليونان على ثلاث جبهات. وفي 23 نيسان 1941، وقعت اليونان هدنة، ولجأت إلى المقاومة وفق أسلوب حرب العصابات، والتي واصلها شعبها حتى نهاية الحرب. وبحسب رأي الكثيرين، فإن الأسابيع التي قضاها الألمان في إنقاذ الجيش الإيطالي هي التي يعود إليها الفضل في تأخير غزو روسيا، الذي انطلق في 22 حزيران (يونيو) 1941، لفترة تكفي للتسبب للهجوم الألماني في التعثر والمعاناة جراء ظروف فصل الشتاء القاسية في الطريق إلى موسكو وستالينغراد في شتاء 1942- 1943، ما سمح بالإعداد لهجوم روسي مضاد ناجح. وتزامنت هزيمة ألمانيا في ستالينغراد مع انتصار بريطانيا في معركة العلمين في تشرين الأول 1942، التي مثلت نقطة تحول في مسار الحرب، إذ لم تفز ألمانيا أبداً بعدها في معركة كبيرة أخرى. غير أن احتلال الجنود الألمان والبلغار والايطاليين أراضي اليونان زمن الحرب تسبب، بحسب ريتشارد كلوج في «واحد من أقبح حالات التضخم المفرط المسجلة على الإطلاق، أكثر حدة بخمسة آلاف مرة من تضخم جمهورية « فايمار» الألمانية في بداية العشرينات من القرن العشرين. وكانت مستويات الأسعار في كانون الثاني (يناير) 1946 أكبر بمقدار خمسة تريليونات مرة من تلك المسجلة عام 1941، كما أنتج الاحتلال واحدة من أسوأ المجاعات في التاريخ الأوروبي الحديث، حيث يقدر أن نحو 200 ألف يوناني ماتوا جوعاً بين 1941 و1943. وبالتوازي مع ذلك، تواصلت الحرب الوحشية بين الميليشيات اليونانية وقوات الاحتلال التابعة لدول المحور، مع عمليات التعذيب والانتقام المعتادة من قبيل إطلاق النار على 150 رهينة مقابل كل هجوم على جندي ألماني. وفي 1944، انسحب الألمان متبعين استراتيجية الأرض المحروقة، مصحوبة بفظائع يرى العديد من اليونانيين اليوم أن التعويضات الألمانية التي قدمت عنها غير كافية، حيث تشير التقديرات الرسمية إلى أن 1.2 مليون يوناني – أي أكثر من ثمن عدد السكان – شُردوا، كما أن الجدال ما زال قائماً حول ما حدث لمخزون الذهب اليوناني. وعقب انتهاء الحرب في أوروبا (أيار/ مايو 1945)، اندلعت حرب أهلية في اليونان بين الميليشيات الشيوعية، المدعومة من الزعيم تيتو من بلغاريا التي يهيمن عليها الجيش الروسي من جهة، والقوات اليونانية الملكية المدعومة من بريطانيا من جهة ثانية. ثم أدى إجهاد بريطانيا إلى عقيدة/مبدأ (Doctrine) ترومان الأميركية عام 1947، التي قامت على تحصين اليونان وتركيا من المد الشيوعي. ولم تنته الحرب الأهلية اليونانية إلا بعد أن أدى قطع يوغوسلافيا تيتو لعلاقتها مع الاتحاد السوفياتي السابق بزعامة ستالين في 1948، إلى وقف الدعم عن الميليشيات الشيوعية اليونانية. وبالتالي، فإن قصة العلاقات اليونانية مع ألمانيا هي أكثر تعقيداً مما يبدو أنه سائد حالياً في برلين، فالمقاومة اليونانية يمكن أن ينسب إليها الفضل في التسبب في هزيمة ألمانيا على يد الاتحاد السوفياتي، وقد يجادل أصدقاء اليونان بأنها هي التي مكنت الحلفاء من الانتصار في الحرب العالمية الثانية. وعلى رغم أن هناك كثيراً من الأسباب التي تقف خلف الأزمة المالية الأوروبية الحالية، بدءاً من الفساد وانعدام المسؤولية الجمعية في اليونان إلى الجمود المؤسسي الأوروبي، والمفهوم الخاطئ للاتحاد النقدي من دون اتحاد مالي. لكن هذه ليست مجرد قصة في شأن إسراف مالي وسياسة مالية صارمة، فأزمة الديون الأوروبية ليست مجرد أزمة اقتصادية، بل هي صراع هوية متنام أو بالأحرى صراع عرقي. لقد كان الاتحاد الأوروبي فكرة سياسية تهدف إلى ترويض ألمانيا العدوانية، وكان يعتقد أن الترابط الاقتصادي القوي والهوية الأوروبية المشتركة سينموان عبر مؤسسات الاتحاد؛ حيث استفاد الأوروبيون من الرخاء الاقتصادي الذي سيخلقه التكامل، وكان بمقدور النخبة السياسية تسويق هذه الفكرة لمواطنيهم في ظل الازدهار والمكانة الدولية العالية التي تمتعت بها أوروبا، لكن الاتحاد فقد بريقه، إذ بدأ «تأييد» الحليف الأميركي له يتراجع، مركزاً على شرق آسيا والباسيفيك، في حين تراخي «تهديد» روسيا له، وكلاهما، وبطريقة مناقضة، كانا عاملان أساسيان في بناء الكيان الأوروبي. هذا الانزلاق إلى الصراع العرقي في أوروبا ليس عنيفاً، لكنه على رغم ذلك يمكن أن يكون مدمراً على الصعيدين الاقتصادي والسياسي. فعلى رغم تأكيدات المحللين أن خروج اليونان ستكون له تكلفة باهظة بالنسبة لألمانيا، حيث أشارت مجلة «دير شبيغل»، في أيلول (سبتمبر) 2012، إلى أن خروج اليونان من منطقة اليورو «سيكلّف ألمانيا 62 بليون يورو (79 بليون دولار)، لكن الواضح أن هناك شيئاً أكثر عمقاً يحرك الشعب الألماني. وهذا ليس مجرد نتيجة للإرهاق الاقتصادي أو الخوف، بل هو عودة متوقعة للهويات القومية التي لا تقبل المساومة، التي كان الاتحاد الأوروبي يأمل أن تختفي. ومن دون تقديم امتيازات حقيقية لليونان سيكون خروجها من الاتحاد الأوروبي أمراً لا مفر منه، ومعه انتصار ضيق الأفق لأوروبا. ذلك أن انسحاب اليونان سيؤدي إلى فقدان الثقة في هذا التنظيم الاقتصادي والسياسي الكبير، ولن يمر وقت طويل حتى تلتحق دول أخرى بركب الزورق اليوناني الغارق، ويفقِد بذلك الاتحاد مبررات وجوده، إذ من الصعب على الأوروبيين تصور وجود كيان أوروبي موحد من دون الأيقونة اليونانية. فهوية أوروبا – بحسب جاك ديلور رئيس المفوضية الأوروبية الأسبق- تقوم علي أعمدة ثلاثة: المسيحية والقانون الروماني والنزعة الإنسانية في الفلسفة اليونانية. وأوروبا بوصفها تمثل هوية حضارية وسياسية، ستكون مفتقرة إلى جانب كبير من معانيها ومن العوامل المؤثرة في وجودها بمجرد خروج اليونان من الاتحاد، لأن السياسة والاقتصاد وحتى الجغرافيا الأوروبية ستكون خالية من المعنى إذا ما فصلناها عن مهد الحكمة الغربية بحسب تعبير برتراند راسل. * كاتب مصري