يحسب المرء أن الأمور في ليبيا هادئة وساكنة، إذا طالع الصحف وشاهد القنوات التلفزيونية، لكن منطقة شرق ليبيا صارت شبه مستقلة، وعاصمتها بنغازي. وثمة معارك صغيرة قبلية تدور في الجنوب، وفاق عدد ضحاياها عدد ضحايا اشتباكات الميليشيات المتنافسة. والسلطة المركزية متهافتة، وعمليات قمع المنافسين بذريعة مواجهة"القذافيين"تتوالى، وتتكاثر. والتعذيب سائرٌ على ما كان سائراً في عهد القذافي، والسلفيون الغاضبون يملأون الفراغ الذي خلفته الدولة ولم تملأه. ويبدو أن ثمة من لا يريد محاسبة المسؤولين السابقين على جرائمهم. في آب أغسطس الماضي، كتبتُ في صحيفة،"ليبراسيون"، ما ثبتت صحته:"الرئاسة الفرنسية بادرت إلى مغامرة مرتجلة من غير التأني في تقويمها والإعداد لها. وحضّت حلف شمال الأطلسي على التدخل عسكرياً في ليبيا. والتدخل هذا يشوه صورة الربيع العربي المهيبة، وهو التدخل يوقف عجلة الربيع هذا عن الدوران، ويعزز كفة الإسلاميين ويشل يد مجلس الأمن، ويطلق يد الرئيس بشار الأسد في حملته القمعية الرهيبة من غير أن يخشى رقيباً أو حسيباً... وأيدتُ توجيه ضربات إلى قوات القذافي تحول دون بلوغها بنغازي المحاصرة، لكن التورط تورطاً مباشراً في النزاع الليبي ضرب من الجنون يخالف قرار مجلس الأمن، ويحل محل إرادة الشعب ويقرر إطاحة سلطة... ونأمل بأن يسقط القذافي، لكن العوامل المجتمعة ستفضي إلى الفوضى من بعده، ثم إلى بلوغ الإسلاميين السلطة، ومنهم المغالون في التطرف الذين يتوسلون كل أنواع الأسلحة". سقط القذافي. وعمت مشاعر النشوة، وسادت بعدها الفوضى. والفوضى اليوم في ليبيا لا توصف. وعزفت وسائل الإعلام عن تناولها. وفي غياب حكومة تتولى تنظيم انتخابات حرة، برز تطرف بدائي مشبع بأموال النفط العربية، وتفشت القبلية، وساد حكم الميليشيات والعصابات التي تتستر بلواء الهويات، وظهرت حركات انفصالية من عهد آفل ومجموعات فوضوية. إزاء هذه الكارثة، تسدل وسائل الإعلام الفرنسية ستارة على أحوال ليبيا وتحجبها، ربما مراعاة لمشاعر برنار هنري ليفي. ولكن هل شن المغامرة الليبية التي يدفع السوريون ثمن نتائجها، وسيدفع المصريون في المستقبل ثمنها، والتونسيون من بعدهم والجزائريون، كان ثمرة إجماع سياسي - إعلامي سوّغ الضربة؟ وما دور تمويل قطر الحملة على ليبيا في هذه المبادرة؟ متابع شاشات التلفزة الفرنسية وربما التلفزة الغربية والعربية يخلص إلى أن ليبيا لم تعد موجودة على خريطة العالم. * كاتب، عن"ليبراسيون"الفرنسية، 20/3/2012، إعداد م. ن.