نقل مراسل صحافي أجنبي زار مدينتي إدلب وحلب أخيراً مشاهداته التي تضمّنت محاكمة أجرتها محكمة محدثة محلياً في إحدى البلدات، لجأ إليها متخاصمون في هذه البلدة، وحوكم في"قاعاتها"مرتكبون ومجرمون. و"القاعة"هنا هي أي مكان يتسنّى استخدامه، سواء كان صفاً في مدرسة، أو حجرة في مبنى حكومي، أو حتى غرفة في منزل"القاضي". بيد أن الصحافي قال، في ما يشبه القلق الملغوم بنوع من الحسرة، إن المحكمة أصدرت في ختام جلساتها أحكاماً تستند أساساً إلى الشريعة الإسلامية، في إطار ما سمّاه"سوريّة تشهد نوعاً جديداً عليها من العدالة". تطرح الجملة الأخيرة جملة متنوعة من التساؤلات التي تتراوح بين:"من فوّض هؤلاء بالسلطة القضائية وبالتالي بالقصاص؟"، و"ماذا يعني هذا النوع من العدالة بالنسبة لهؤلاء؟"، و"ما هو تعريف العدالة الذي اعتمدته هذه المحاكم؟". لكن الكلمة التي تستدعي التأمل أكثر من غيرها في تلك العبارة هي كلمة"جديداً"، والتي قد توحي بأنّ ثمة نوعاً"سابقاً"كان سائداً في البلاد قبل نشوء هذا النوع"الجديد"من العدالة. إذا كانت الوظائف الأساسية للدولة تتلخص في تأسيس جيش لحماية مصالح البلاد والأفراد، وحفظ الأمن والنظام، وتحقيق العدالة، وتنظيم القضاء، وإنشاء المحاكم، ورعاية العلاقات الدوليّة الخارجية، وتمويل المؤسسات وإصدار العملة، فإن واقع الحال في سوريّة الأسد يشير إلى أن السلطات لم تعد منذ مطلع الثمانينات خصوصاً تهتم بأداء الوظائف الأساسية تلك إلا بقدر ما كان يحتاجها النظام كطغمة ممسكة بتلابيب البلاد. والحال أن هياكل الدولة عوملت كإقطاعات حيناً وكبنى صوريّة حيناً آخر. وهذا يشمل جميع الهياكل من دون استثناء، بدءاً من الحكومات والوزارات، مروراً بالبلديات وشركات القطاع والمنظّمات الشعبية، وصولاً إلى المؤسسات التعليمية والمراكز الثقافية والدوائر الخدماتية، وحتى السفارات، فيما حُلّت منظمات المجتمع المدني أو حظرت أو خنقت. وليست المحاكم وأجهزة القضاء والعدالة ببعيدة من هذه المعاملة. لا بدّ بالطبع من التنويه أن النزاهة والكفاءة المهنيّة والمناقبية العالية كانت سمةً لم تبارح العديد من رجال القضاء والقانون في سوريّة، ممّن واجهوا ظروفاً وظيفية ومهنيّة ومعيشية في غاية الصعوبة نظراً الى وقوفهم إلى جانب الحق والعدالة، بعيداً من فساد الجهاز القضائي، ومن ضغوطات الأجهزة الأمنيّة النافذة. فهؤلاء واجهوا تنكيلاً متنوع الأشكال، بدءاً من التضييق على حركتهم والحدّ من صلاحيتهم وتخفيض مراتبهم الوظيفية أو تجميدها، وصولاً إلى"نفيهم"إلى أماكن بعيدة من أماكن إقاماتهم وعن عائلاتهم، بما يسبب ضغطاً أسرياً وأعباء اقتصادية جمّة، في محاولة لكسر مواقفهم حين لا تلين بالحسنى. فهذا قاضٍ شاب نُقِل من اللاذقية إلى السويداء لأنه تمسك بالقوانين رافضاً الامتثال إلى"تعاميم"صادرة عن وزير العدل، تناقض مواد القانون تناقضاً صارخاً. وذاك مستشار في الستينات من عمره، له العديد من المؤلفات القانونية، تأهّل مراراً إلى تسلّم حقيبة وزارة العدل لولا"فيتو"أجهزة الأمن التي لم تتمكن من اختراقه، فرُفّع شكلياً إلى رتبة قضائية أعلى في دمشق، المدينة التي تبعد مئات الكيلومترات من حلب، حيث بيته وأسرته وأبناؤه وأصدقاؤه، كي"يتمرمط"في وسائل النقل وفي الفنادق التي تناسب الراتب"السخيف"الذي يتقاضاه من وظيفته، كنوع من الضغط عليه كي يقدّم استقالته، جراء رفضه المتكرر لضغوطات الأجهزة عليه في كيفية البتّ في هذه القضيّة أو تلك، ومن ثم رفضه تدخّل السلطة التنفيذية ممثلة بوزير العدل"المخترق أمنياً"في محاكماته، ومن ثمّ إجهاره الوقوف ضد قانون العقوبات الاقتصادي، لا سيما ما طرأ عليه من تعديلات وفقاً لمصلحة وزير العدل أو رئيس محكمة الأمن الاقتصادي. بيد أن الحال العام هو الفساد. والفساد يعني التواطؤ والشراكة مع أجهزة الأمن بإحدى طريقتين، وبكليهما في بعض الأحيان: الأولى هي أن يكون للقاضي المرتشي"مفتاح"للتدخل في الدعاوى التي يفصل فيها، والمفتاح هو السمسار الذي يكون في العادة أحد المحامين أو معقّبي المعاملات، أو ربما زوجة القاضي ذاته. وهي أطراف معروفة تماماً لأجهزة الأمن، التي يقال إنها تحتفظ بقاعدة بيانات كاملة في شأنها يمكنها استخدامها للابتزاز أو للمحاصصة. والثانية هي أن يكون القاضي قد حصل على منصبه ضمن صفقة مع ضابط أو جهاز معيّن، يتعهد فيها سداد مبلغ مقطوع عند مباشرته مهماته، ومن ثم يدفع مبلغاً شهرياً تجري مراجعته مع تطوّر"حركة السوق". وبطبيعة الحال، فإن فساد المحاكم والعدالة لا يقتصر فقط على تغييب القانون من خلال القضاة والمستشارين والنواب العامّين، بل يمتد ليشمل أيضاً كامل التركيبة الإدارية لهذا الجهاز، وصولاً إلى الأرشيف، حيث يمكن لأضابير الدعاوى أن تفقد أو تضيع أو أن تتعرض للتزوير. وبالعودة إلى التقارير الصحافية التي باتت تتواتر عن نشوء محاكم محلية في هذه البلدة أو تلك القرية، نجد أن اقامة مؤسسات من هذا القبيل تبدو خطوة إيجابية للبتّ في مشاكل الخصومة المحليّة، هي أشبه بإيجاد محاكم صلح، وفق الصيغة التي يقبل بها أطراف الدعوى، بعيداً من ربقة الفساد والجور والحيف الذي قد يتعرض له صاحب الحق. وإذا كانت هذه المحاكم تلتزم بمعايير دينية معيّنة، فهذا أمر لا يدعو للخوف أو الوجل، فهي محاكم ناشئة، من البديهي لها أن تستخدم المعايير المتوافرة بين أيديها ما دام أن المتخاصمين رضوا بها، ريثما تأتي الدولة المدنية المنشودة، دولة العدالة والنزاهة. وإذا شئنا تدقيق ما قاله الصحافي، فإن سوريّة تشهد اليوم فحسب انبثاق نوع من العدالة. * كاتب سوري