لم يسبق أن طرحت مسألة الأقليات في تونس بمثل ما هي عليه بعد ثورة الياسمين، إذ برزت في أفق المشهد السياسي والاجتماعي والثقافي مواضيع ونقاشات عن حقوق الأقليات الأمازيغية والأفارقة السود والبربر وتحرّكاتها. وهذه المسائل ما كان لأحد أن يتحدث عنها أو يطرحها أصلاً، أثناء حكم زين العابدين بن علي الذي لطالما قمع الأقليات وأخفى مشكلاتها وتحرّكاتها. في هذا السياق يفتتح"التياترو"في العاصمة التونسية موسمه الثقافي السادس والعشرين، بتظاهرة فريدة في عنوانها وأهدافها وهي"أن تكوني سوداء في الخضراء". التظاهرة التي تنتهي في العشرين من تشرين الأول أكتوبر الجاري، تشكّل مساحة حوار حول فنون الأقلية الإفريقية في تونس. وهي فكرة ابتكرتها زينب فرحات تهدف الى"الارتقاء بثقافة المساواة واحترام حقوق الإنسان"، كما تقول. وتضيف:"خلال مؤتمر جمعية النساء الديموقراطيات، قبل سنوات، ألقت إحدى الصديقات صرخة استغاثة مفاجئة وانفجرت باكية... وتكلّمت مطوّلاً عن نفورها من مواطنيها وطريقة تعاملهم العنصرية مع ذوي البشرة السوداء. وطرحت موضوع الظلم الاجتماعي الذي تتعرض له الأقليات، للتحليل والنقاش". وتؤكد فرحات أن هذه الصرخة الحارقة أثرت فيها بعمق، ووعدت الحاضرين بأن تُلبس هذه المسألة حلّة أدبية فنّية. تحوّلت الصرخة اليوم وبعد سنوات إلى ابتسامة مشرقة من خلال تظاهرة فنيّة تشمل المسرح والرقص والورشات والسنيما والندوات الحوارية. ومن ضمن الأعمال المشارِكة، مسرحية"البحث عن سعدية"للمخرج نوفل عزارة. تروي المسرحية قصة أحد ملوك إفريقيا الذي فقد ابنته الوحيدة التي تدعى سعدية، إثر عملية خطف، لتباع في سوق العبيد. تألم الملك لغيابها، فهجر مملكته وتنكر متنقلاً من بلاد إلى أخرى، باحثاً عنها يرقص ويغني كل الأغاني التي تحبّها علّها تسمع غناءه فتخرج إليه. ومن هنا ولدت شخصية بوسعدية الأسطورية التي يعرفها كل التونسيين منذ قرون، وما زالت عروض بوسعدية تجول كل أرجاء تونس. وعن تاريخ سوق العبيد في تونس، يقدم"التياترو"عروض"بركة آر"أو ذاكرة سوق الرقيق. وتعني كلمة"البركة"المستخدمة في اللهجة التونسية، المكان الذي يحطّ فيه العبيد والإبل الحاملة للبضائع الثمينة، ويعبر بها التجار صحارى القارة الإفريقية. ومعروف أن العبيد هم أسرى حروب وغارات أو يشتريهم الأغنياء من عائلاتهم الفقيرة البائسة. وينظم"التياترو"ورشة بعنوان"أبيض وأسود"وهي في شكل مواجهة بين الأبيض والأسود بتبادل المفردات الجارحة والمستفزة التي تخصّ لون بشرة الفرد، وهي تفيد منشّطة الورشة سعدية مصباح بأنها شكل من أشكال العلاج الجماعي يراد منه المصالحة بين الطرفين. تُكتب المفردات على ورقة في شكل مخطوطات رسمها الخطاط ياسر جراديو، علّقت في رواق الفضاء، على أن توثّق وتطبع في"دليل العنصرية اللفظية"لتوزّع على الناس. أما الورشة الثانية، فتحمل عنوان"عندما نحب ويكره الآخرون"ويقدّم خلالها نساء تعرّضن وما زلن يتعرضن للعنف، شهادات حية رامين عرض الحائط كل التابوهات الاجتماعية. وتنظم الورشة بمشاركة خلية الاستماع في"الجمعية التونسية للنساء الديموقراطيات"، وتنشّطها سميرة طرابلسي. سينمائياً، اختار المنظمون أن يدعموا بعض التجارب الشابة ضمن مشروع"أعمال صغيرة لكنها جيدة"، فينتج سينمائيون هواة أفلاماً قصيرة تتمحور حول أشكال التمييز العنصري، وتعرض في"التياترو". وسيكون الجمهور التونسي المتعطّش للنقاش حول التمييز على موعد مع ندوة بعنوان"كرامة رغم الاختلاف"يتحدث فيها ممثلون لجمعيات ومجموعات ناشطة على شبكات التواصل الاجتماعي، تناضل من أجل تكريس المواطنة الحقيقية ومن أجل كرامة المواطن في كل من تونس وموريتانيا والمغرب. أما الندوة الثانية، فهي بعنوان"تاريخ الأقلية السوداء في تونس وفي المغرب العربي ومكانتها"، وهي مقاربة أنثروبولوجية وتاريخية لعدد من المتخصصين. وعلى هامش التظاهرة، ينظم"التياترو"عروضاً ارتجالة فنية حول موضوع التمييز العنصري، يقدم فيها الفنانون المشاركون أعمالاً تتغنى باللون الأسود، وتتوزّع بين الصورة والمعلومة والأعمال التركيبية.