أول ما يلاحظه المتردد على المقاهي المنتشرة بكثرة في المدينة الطالبية التابعة لجامعة الصداقة بين الشعوب في موسكو سيطرة النقاشات السياسية على المشهد وتراجع الحماسة حتى لمباريات الرياضة التي كانت تجمع في العادة القسم الأكبر من الطلاب المتسمرين أمام شاشات كبيرة. وحتى ماض قريب كان الحديث في السياسة غير محبب لقطاع واسع من الطلاب، لأن السياسة"تجيب وجع الرأس"كما يقال. لكن التطورات اليومية للوضع الميداني في هذا البلد أو ذاك باتت المحور الأساس الذي يجمع الطلاب أو يفرقهم. واللافت أن الحراك الجاري في المنطقة العربية أسفر عن عملية فرز كبيرة. فبات"مؤيدو النظام"يجتمعون في أماكن محددة بينما تحولت بعض المقاهي إلى مراكز لتجمع المعارضين وأحياناً"غرف عمليات"لتنسيق نشاطاتهم. وهذه الظاهرة ليست جديدة على المجتمع الطالبي في موسكو، فالانقسام الفلسطيني كان تسبب في نشوء وضع مماثل في السابق. لكن الجديد هو انتشار الظاهرة واتساع نطاقها إلى جنسيات أخرى. ففي حين أن الثورتين المصرية والتونسية لم تؤثرا كثيراً على حياة الطلاب من البلدين لقلة عددهم، إلا أن التطورات في اليمن وسورية رمت بثقلها بشكل قوي على المشهد الطالبي لأن الدارسين في الجامعات الروسية من البلدين هم الأكثر عدداً بين العرب. وقال محمود الحمزة وهو ناشط سوري معارض ل"الحياة"إن"الثورة فتحت على مرحلة جديدة بالنسبة إلى الطلاب السوريين"لا تقتصر على انشغالهم المتواصل بمتابعة آخر التطورات، بل حتى على نشاطاتهم اليومية. وزاد أن التأثير كانت له جوانب سلبية حيناً وإيجابية في أحيان أخرى. ومثلاً، لا يخفى أن كثيراً من الطلاب السوريين قدموا إلى روسيا ضمن بعثات حكومية وأن حزب"البعث"يسيطر كلياً على فرع اتحاد الطلاب السوريين في روسيا ما جعل الموقف بالنسبة إلى من انحازوا إلى المعارضة صعباً، فهم يتعرضون كما يقول الحمزة لضغوط كثيرة وصلت أحياناً إلى درجة التهديد المباشر. وبحسب الحمزة تلقى كثير من الطلاب اتصالات هاتفية تحذيرية، بينما تعرض واحد برز منهم للضرب على يد مجموعة استهدفته، ما دفع المعارضين إلى تقديم شكوى إلى السلطات الروسية كما يقول وطلب الحماية منها. وفي حين أن قسماً من الطلاب جاهر بموقفه وبات"محسوباً"على المعارضة، فإن كثيرين ما زالوا يخشون على أنفسهم أو على أقاربهم في الوطن. ويكفي كمثال أن طالباً كان في زيارة سورية شارك في التظاهرات من دون تردد بينما تخلف عن حضور تظاهرة في موسكو نظمت بعد عودته مباشرة، وبرر ذلك بأنه هناك في سورية"واحد بين كثيرين أما هنا فمن السهل تصويري وكتابة تقرير عني للأجهزة الأمنية". لكن هذه المخاوف لم تمنع عدداً من الطلاب الذين جاهروا بمواقفهم من أن يحضروا اجتماعاً كبيراً نظم خلال زيارة وفد المعارضة السورية موسكو ويقفوا الواحد تلو الآخر معلنين انسحابهم من حزب البعث وسط صيحات التشجيع والتصفيق في القاعة. ولا يختلف الوضع كثيراً بالنسبة إلى الطلاب اليمنيين، مع فارق أن غالبيتهم الكبرى أعلنت انحيازها منذ البداية إلى المعارضة، ويتداول اليمنيون تسجيلاً يظهر تدخل رجال الشرطة الروسية واحتجاز عدد كبير منهم أثناء تجمعهم في تظاهرة داخل حرم السفارة اليمنية في موسكو. واللافت أن تأثير الثورات العربية على حياة الطلاب لم يقتصر على الوضع الحياتي بل انتقل حتى إلى نشاطهم الافتراضي على شبكات التواصل الاجتماعي إذ يشير معارضون إلى ظهور واتساع نشاط ما يوصف بأنه"الجيش الإلكتروني"الذي يتابع كل ما يكتب عن سورية وينظم حملات للدفاع عن النظام ومهاجمة المعارضين. وقال مكسيم الناشط السوري الذي تم أكثر من مرة اغلاق حسابه على صفحة"فكونتاكتي"وهي النسخة الروسية ل"فايسبوك"إن صفحات عدة تم إنشاؤها تحمل تسميات وشعارات مثل"الله سورية بشار وبس" و"غير تلاتة ما منختار الله وسورية وبشار"وغيرها. وأشار إلى أنه حاول أكثر من مرة خوض نقاشات وكتابة تعليقات على مواد منشورة لكنه تعرض"لحذف الكتابات والشتم وتم إغلاق حسابي بطريقة لم أفهمها". لكن أطرف ما تركته الثورات العربية من آثار على حياة الطلاب في روسيا هي التعابير والألفاظ التي باتت على كل لسان بعدما كررها أكثر من زعيم عربي، وقد يفاجأ الجالس إلى طاولة مجاورة لطلاب سوريين مثلاً عندما يدخل عليهم صديق ويبادرهم بالتحية قائلاً: مرحبا يا مندسين! أو أن يقول آخر"شو... شايف كل الجرذان متجمعين اليوم؟"