لم ينجح أحد في كتابة قصة رقص الباليه، وهو أكثر الفنون رقة ورقياً وإذهالاً على ما فعلت جينيفير هومنز في كتابها"ملائكة أبولو". وهو فن"الأصول الأرستوقراطية"الرفيعة والراقية والفائقة التهذيب، فهو علم"الصلة بالآخر"، على قول أحد معلمي الباليه وكبار أساتذته في القرن السابع عشر، ورفرفة شابات على رؤوس الأصابع العشرة مرتفعات حيث ينقص الهواء. وتناولت جنيفير هومنز عالم الباليه، عالم العذراوات والأميرات النائمات والكائنات الخرافية و"النساء البيضاوات"وكأنهن يتحدرن من عالم الأبد. ونشاهد وكأننا أمام أعجوبة ولادة الحروب والثورات والمؤامرات السياسية من ثنايا أقمشة التول الرقيقة والشفافة والخف الحريري. وعلى المسرح، تظهر الراقصات الفراشات في بلاطات الملوك والقياصرة، أي في الأمكنة التي أبصر فيها الفن هذا النور. وعروض الباليه هي أحلام الشعراء المأخوذة على محمل جد، على قول تيوفيل غوتيي. وقصة ال"توتو"التنورة المنتفخة والقصيرة هي قصة مجموعة من الحالمين المجانين، وقصة الراقصين والمقاتلين في سبيل صوغ أنبل أشكال التعبير الجسدي الإنساني وأكثرها كمالاً. فالباليه هو سمو الجسد. وليس من الصدفة ولادة الفن هذا في بلاط هنري الثالث، في القرن السادس عشر. تبدأ هومنز تأريخ سيرة الباليه من عرض"باليه الأميرة الهازل"في 1581، وهو يعتبر أول عرض باليه في التاريخ، دام ست ساعات متواصلة، وقدم للجمهور قصة الساحرة سيرسي. وبجّل الفرنسيون البالية، الذي تصدر أولوياتهم الفنية. ووصف الكاهن ميرسين، وهو معاصر ديكارت وباسكال، صاحب الزمان ب"معلم الباليه الكبير". والباليه هو رقص الملوك. فلويس الثالث عشر صمم أزياء الراقصين، وصاغ قصصه، وأدى بعض الأدوار الرفيعة مثل دور الشمس وأبولون، آلهة الموسيقى والشعر. وابنه، لويس الرابع عشر، بدأ رقص الباليه، في 1651، يوم كان في الثالثة عشرة من العمر، وتدرب يومياً طوال عشرين عاماً على يد بيار بوشان، أستاذ الرقص. فأحزان البشر والكوارث التي يحفل بها التاريخ، والتخبطات السياسة، ولدت من رحم نقص الإلمام بالرقص، يقول معلم الرقص في رواية"لو بورجوا جانتيوم". وحري بالرئيس الأميركي، باراك أوباما، الاستعانة بنظير بوشان. وارتقى الباليه فناً، بعدما كان فن الأصول، على يد بوشان الذي حدد خمس وضعيات كلاسيكية للجسم في رقص الباليه. وهومنز نجمة باليه سابقة، ومسار الباليه وانتشار حمى الشغف به طويل وحافل. فهو ولد في أوروبا، وفي فرنسا على وجه التخصيص، وحط الرحال في روسيا في منتصف القرن التاسع عشر، ماراً بإيطاليا والدنمارك وألمانيا والنمسا. ومن روسيا عاد الباليه الى أوروبا الغربية في مطلع القرن العشرين، ثم بلغ أميركا. وفي منتصف القرن الثامن عشر، بادرت راقصة الباليه الفرنسية الخلابة، ماري سالّي، الى تكريس حق النساء، ولو كن يتحدرن من شريحة اجتماعية متواضعة، رقص الباليه، شأنهن شأن الملوك والرجال. وكان من معجبيها، فولتير ومونتسكيو. وقصة الباليه وثيقة الارتباط بالطبقات وبلغة الارتفاع العمودي وابتكار نبل الجسد. وخالطت راقصات الباليه طبقة النبلاء الأرستوقراطية، وكان كبار القوم يخطبون ود الشابات اللينات الجسد. في مطلع القرن التاسع عشر، أقدم الراقص الفرنسي المذهل أوغوست فستري على توسيع حركة فتح الساقين 180 درجة، بينما التزم لويس الرابع عشر حركة أقل حشمة، ففتح الساقين 90 درجة. وحمل الراقصين معه على الرقص على رؤوس أصابع القدمين، وساهم في ابتكار الأخفاف الطرية النعل وأربطة الأقمشة الحريرية. وأعطى فستري دروساً في الرقص من ثلاث ساعات يفترض أن يؤدي فيها المتدرب 48 حركة ثني للساقين، و96 حركة خفق منسابة، و128 حركة دائرية للساقين، و128 قفزة في الهواء". والأغلب على الظن أن يتلوى القارئ من الألم، إذا كان راقصاً وملماً بما يكابده وزملاؤه في الرقص. والسبيل الى بلوغ الكمال في الباليه هو التمارين المتواصلة. ودخلت أول راقصة باليه، ماري تاغليوني، التاريخ، وحفرت مكانة لها في ذاكرة عالم الفن. وهي ولدت في استوكهولم في 1804 من سلالة راقصين إيطاليين. وعلى رغم شكلها الدميم، وجسمها غير المتناسق، وأكتافها المنحنية وساقيها البالغتي النحول، ارتقت رمز الجمال النسائي والجمال السامي الذي لا يبلغ. وسيرة الراقصة هذه، التي نجحت في ترك بصمتها في التاريخ، تسلب الألباب. فهي سيرة مقارعة الروح والجسد قوى الجاذبية ونظرة الرجال الأفقية. وإثر أدائها دور"السيلفيد"، صارت تاغليوني رمزها، أيقونة الكائن الخارق والماورائي القوية والضعيفة، اللعوبة والعفيفة، والعاشقة والمستقلة. واستوحى الكاتب شاتوبريان تاغليوني، ورأى أن"السيلفيد"هي"تحفة"فنية، واجتاحته نوبات رغبة عارمة وجارفة إزاء تاغليوني. ولا يستخف بما أوحت به هذه المرأة المعروفة بدمامتها وقبحها من مشاعر. فكأن جمال رقص الباليه أحاطها بهالته، وأصابها بعدوى الجمال والرقة. وتجاوزت الهالة المحيطة بتاغليوني خشبة المسرح، وصارت قوة تبعث على الفوضى والتحلل، على قول هومنز، أي على تحدي العادات والأدوار النسائية التقليدية. وفي وقت افترض بهن التزام نمط حياة محتشم ومحافظ، تاقت السيدات الى مقايضة حياتهن الهادئة والرتيبة ب"سيول الشغف وغيره من المشاعر الخطيرة". أوغوست بونونفيل، معاصر تاغليوني وصديق الفيلسوف كيركغارد، ولد في الدنمارك، وسافر في أوروبا، وتتلمذ على فيستري بباريس، ودافع في مبارزة عن شرف سيده. وأدار مسرح الباليه الملكي في الدنمارك طوال 47 عاماً، وصمم نحو 50 رقصة. وأولى في أعماله الراقصة الأولوية لدقة حركة الساقين والرجلين، دقة متخففة من الشغف والقلق. وأغنى، على ما لم يفعل أحد غيره، معجم الباليه. وباليه"إيكسلسيور"الإيطالي هو أكثر عروض الباليه شعبية في تاريخ هذا الفن، على رغم إخلاله بالمعايير الجمالية. وصمم رقصات الباليه الإيطالي هذا لويغي مونزوتي، في 1881. ورقص في عروضه 500 راقص، وشارك في العرض حصانان وبقرتان وفيل. وأدى أبطال العروض هذه أدوار النور والظلام والحضارة والابتكار والتناغم والصيت والمجد والصناعة والعلوم. وينتهي العرض هذا الى تبديد النور الظلام، و"معانقته"الحضارة"عناقاً حاراً". وقدم العرض هذا نحو مئة مرة على خشبة مسرح"لا سكالا"بميلانو، وجال على مدن إيطاليا كلها، ومنها في العالم في أميركا الجنوبية والولايات المتحدة، وبرلين، ومدريد، وباريس، وفيينا، وسان بطرسبرغ. وعلى رغم سخافة باليه"إيكسلسيور"، بذر راقصوه بذور الباليه في مدن العالم من طريق الرقص وتعليم الرقص. وبين الراقصين هؤلاء، المعلم الإيطالي الذائع الصيت، انريكو سيشيتي. وشارك وكارلوتا بريانزا وبيرينا ليغاني في ابتكار أدوار الأميرة أورور وأوديت أو أوديل في كبرى عروض الباليه الروسية التي صممها ماريوس بيتيبا، أي الجميلة النائمة، وبحيرة البجع. وتتلمذت كل نجمات الباليه منذ منتصف القرن التاسع عشر على بيتيبا. وهو متحدر من عائلة راقصين. وولد بيتيبا في مرسيليا بفرنسا، وتتلمذ على فيستري بباريس، وسافر كثيراً، وشارك في مبارزة دفاعاً عن شرف شابة. وهو أرسى أركان فن الباليه،"الجميلة النائمة"و"بحيرة البجع"، وصمم رقصة"جيزيل"، وهذه لا تزال تؤدى الى اليوم على المسارح. وتأثر بيتيبا بموسيقى تشايكوفسكي، وهو أول مؤلف موسيقي كبير يرى أن الباليه فن ناجز. ودرج تشايكوفسكي على زيارة بيتيبا وعزف مقطوعاته الجديدة على مسمعه. وتوسلت البروباغندا السوفياتية بعروض الباليه لتوجيه رسائل سياسية وأيديولوجية. وترى هومنز أن بروز مسرح البولشوي وفرقه الراقصة آذن بأفول فن الرقص. وفي المرحلة السوفياتية، ارتقى الباليه رمزاً وطنياً وقومياً، على رغم شكوى نيكيتا خروتشيف من أن أحلامه باتت مسكونة بخليط من الدبابات وتنانير"التوتو"البيضاء من كثرة مشاهدته عروض"بحيرة البجع". ويعود الفضل الى غيورغي بلانشيفادزي، المعروف ببلانشين، في إرساء الباليه في الحياة الفنية الأميركية. ففن الباليه الكلاسيكي هو نقيض القيم الأميركية، وهو رمز كل ما تنبذه الثقافة الأميركية. فهو فن أرستوقراطي وفخم، وفن النخب والتراتبية من غير مساواة. فهو وضع لتمجيد الملوك والقياصرة. ولكن طابعه النخبوي هذا لم يحل دون ازدهاره في بلاد الديموقراطية والمساواة والحرية. وعلى خلاف معاصريه من مصممي الرقص، لم ينقل بلانشين في عروضه الوقائع الاجتماعية وشؤون البشر. فهو رأى أن الباليه هو فن الملائكة، وفن سمو البشر، فن الجمال والفروسية، والصفاء والنقاء. وفي رسالة الى جاكلين كينيدي، كتب بلانشين أن الباليه هو المرأة. فالرجل يهتم بالشؤون المادية، والمرأة تهتم بشؤون الروح. فالمرأة هي العالم، والرجل يعيش في كنفها ووسطها، ويطوف في فلكها. وهيمنت على أعمال بلانشين صورة لقاء رجل وامرأة وعجزهما عن البقاء معاً. ففي عروضه الراقصة، برزت صورة الرجل الوحيد الذي هجرته امرأة تغالي في الاستقلال هي امرأة قوية وإلهية الجمال والقوة. والباليه دخل عالم الرقص المعاصر على يد بلانشين، فهو نجح في إدراج الباليه في فنون القرن العشرين. * راقصة باليه وناقدة فنية، عن"نيويورك تايمز"الأميركية، 26/11/2010، إعداد م. ن.