هو أحد عمالقة الرواية العربية، له فيها خمس عشرة رواية، بدءاً من رواية "الجبل" 1957، مروراً بروائعه "الرجل الذي فقد ظله" 1961، "زينب والعرش" 1973، و"الافيال" 1981، وانتهاءً بروايتي "ست الحسن والجمال" 1991، و"قط وفأر في قطار" 1995. وله ايضا اربع مجموعات قصصية وأربعة كتب: ثلاثة كتب رأي وآخر في أدب الرحلات "البحر" 1964. هذه إطلالة على عالمه الفني، تبدأ بإضاءة التكوين ظل الأب، طبيعة خاصة، وبداية الرحلة، لتنتقل الى إبداعه الادبي الصعود الى العرش، الافيال، ورحلة نحو الدين. التكوين: ظل الأب: أهم المؤثرات إطلاقا في شخصية فتحي غانم، هذا الأب الطموح، ذو التطلع الطبقي، وذلك ما دفعه الى الزواج من قاهرية، لها أخ سفير، كما أوصله طموحه الى الدرجات العليا بوزارة المعارف، وكان يهتم بالتعليم، ويمارس الادب، وكان على علاقة وصداقة حميمة بأدباء مصر كالعقاد وطه حسين وعبدالرحمن صدقي وعلي أدهم وطاهر الجبلاوي وعبدالرزاق السنهوري. إذن، كيف كانت علاقته بابنه؟ أوضح فتحي غانم أنها كانت "علاقة حب وضغط"، "لوضعي في نوع من الانضباط، وحرص على متابعة كل ما أقوم به وتقويمه"، وكان هذا فرضاً لنوع "من التربية المثالية التي تعرضت لها في طفولتي، لقد فرض عليّ أن اكون الطفل الطيب المثالي". هنا شخصية أب قوي، مهيمن، يحرص على وضع عدد من الضوابط بفرض تربية طفله تربية مثالية، وهي ضوابط تتفق مع مزاجه وتكوينه الفكري. وقد وضع فتحي غانم في حواراته بعضاً من هذه الضوابط، فمثلاً، لكون الأب أديباً، شاء أن يضع ابنه منذ طفولته المبكرة على طريق الأدب من خلال تعليمه أداته الاساسية، وهي اللغة العربية، والذي بدأ منذ سن الخامسة، على يد أستاذ ازهري، كان يدرس له وهو يحدثه باللغة العربية الفصحى بشكل كامل، سواء وهو يعلمه القرآن، أو يخبره عن ألفية ابن مالك، أو يشرح له المعتزلة، أو يوضح له حروف القلقلة أثناء قراءة القرآن. وقد ظلّ هذا الاستاذ الازهري معه حتى وصل الى المرحلة الثانوية، ونتج عن ذلك نتيجتان مهمتان: أن أصبح القرآن وقصصه بالذات في داخل فتحي غانم وهو ما سيشكل محوراًً فكرياً اساسياً في عالمه فيما بعد، إضافة الى أنه تشّرب اللغة، فلم يجعل عنده التنبه الشديد لاستخدام اللغة، بل أصبح صوتها موجودا داخله باستمرار، فصار الأمر بسيطاً، سهلاً. هكذا، ترسّخت صورة الاب، الأديب، النموذج، القدوة، وملأت وجدان فتحي غانم، وظلّت حيّة في خياله، حتى بعد وفاة الأب، حين يقول عنه "آخر ذكرى لي عنه صورته وهو جالس يكتب". هنا ايجاز بليغ، إن ما بقي من الأب في الذاكرة هو جوهر وجوده، هو شخصيته كأديب يمارس الكتابة، وكل ما عدا ذلك كان محض حواش أو مظاهر أسقطتها الايام. إن ما اختزنته الذاكرة - ايضاً - هو الجزء الآسر، الذي تمّسك به فتحي غانم بإصرار - لا واعٍ، ربمّا - لكنه كان حافزاً أساسياً، ودافعاً قوياً له في التوّجه نحو الأدب، وهذا ما عبّر عنه فتحي غانم نفسه بعد ذلك، حين قال "لعل افتقادي له، عندما توفى وأنا في الثانية عشرة من عمري، وكنت أكبر إخوتي، هو ما جعل الكتابة تمثل لي عملية تجسدّ في شخص الأب". طبيعة خاصة جانب حوهري آخر تشكل في شخصية فتحي غانم، بحكم قيود تربيته التي عزلته عن مشاركة الاطفال الآخرين عبثهم، تحت اقتناع الأهل بأن هذه العزلة فيها صيانة للنفس وحماية لها. لذلك لم يعش فتحي غانم طفولة عادية، فكان يرقب الأطفال في لعبهم من وراء زجاج نافذة غرفته، دون أن يسُمح له بمشاركتهم، مفروضاً عليه موقف المتفرج، وقد عبّر عن تأثير ذلك بقوله "لقد عانيت الكثير في طفولتي وشبابي بسبب هذه التربية، فقد كنت أتعرض دائما لسوء الفهم من جانب الأصدقاء، يفهمون امتناعي عن المشاركة في لهو الشباب وعبثه، على أنه نوع من التعالي أو العبط أو البلاهة، أو عدم الانتماء لطبقتهم". وكانت فترة طفولته تلك "هي المادة الخام - يقول فتحي غانم - التي استقيت منها طفولة يوسف عبدالحميد السويفي في رواية "الرجل الذي فقد ظله". تجارب طفولتي نفسها، مع تحويرها بعض الشيء بالطبع". لكن تأثير عزلة المتفرج امتد عميقاً، ليشكل موقفاً مما يجيش به المجتمع من تيارات سياسية. فلم ينتم إلى يمين أو يسار، و لم يدخل السجن أو يعتقل ولم يُفتّش بيته مرة واحدة، لذلك فإن هذا النوع من التجارب لن يكون موجوداً في أدبه على الإطلاق. ويبقى أن عزلة المتفرج هذه أتاحت له الفرصة للتأمل، في محاولة لفهم ما يجري حوله وأمامه. كما أطلقت العنان لخياله، لينطلق مغامراً في شتى المجالات، متحرراً من قيود الواقع التي تكبله، وهو ما استفاد منه فيما بعد في تجربة الكتابة، حين عبّر عن ذلك بقوله "لذة الكتابة في مغامرتها، فالكاتب يغامر في بحر الحياة، مع الناس، مع البشر، مع تجارب الانسان، وحتى آخر دقيقة في كتابة رواية لا يدري ماذا سيكتب فيها". بداية الرحلة لذلك كان منطقياً أن تمثّل المكتبة الكبيرة التي خلفها والده شيئاً مقدساً. إنها امتداد لذات الأب، فكان هذا كافياً لأن يبتعد عنها لمدة سنتين، متردداً بين الإقبال والإدبار، بين الحبّ والرهبة. وحين اشتد الحنين إلى الاب، أقبل عليها بشغف، بادئا بتنظيم فهارس لكتبها، في محاولة أولية للتعرف على هذا العالم الجديد، وما يحتويه بين جنباته. ورغم أنه كان يعيش - ساعتها - في رحاب الأب، وسط عالمه المحبب، الا انه عاش سنوات يتحسس هذه الكتب قبل أن يقرأ فيها، ربماّ تقديرا للصورة الباهرة التي رسمها الأب للادباء، ومؤلفي تلك الكتب، أو تخوفا من جسامة المغامرة التي سيقدم عليها باقتحام هذا العالم الذي طالما حلم به. هذه المكتبة - التي كانت تحتشد بالكثير من أمهات الكتب العربية لابن خلدون وابن حزم والشهرستاني وغيرهم، وبالعديد من الكتب الانكليزية والفرنسية أيضاً - ستكون هي الزاد الاساسي الذي يغترف منه فتحي غانم في مرحلة التكّون الأولى، التي استمرت عشر سنوات، يقرأ فيها بنهم في مختلف المجالات، خاصة في الرواية والنقد، يناقش، ويستوعب، حتى تكتمل أدواته الأساسية، ويدخل عالم الادب. وستظل هذه المكتبة - دائماً - مرجعاً أساسياً له يحج اليه كلما دعته الحاجة الى البحث والاطلاع. لقد خلص فتحي غانم، خلال تلك المرحلة، أن تكون بدايته جديدة. ومن ذلك المنطلق يرى "أنه لا بد أن يعرف الروائي أصول اللعبة، ويجب ألا يعبّر عما يريد بطريقة مباشرة، ولا بد أن يعرف كيف يمهد للمواقف القادمة ويحضر لشخصياته، لأنه فن الصنعة لمن كان قدرهم الرواية". لذلك أيضاً يفضل أن يكتب بتلقائية، على حريته، ليخرج العمل متدفّقاً بالحيوية. فإذا كانت المشاعر صادقة، فهى لا تسمح للكاتب بتنميق الألفاظ أو التزويق بالمحسنات البديعية، وكلما تواضع الكاتب وتراجع، ولم يصدر أحكاما، تقدم القارئ وأصدر هو الاحكام. إذن، حددّ فتحي غانم طريقه، وكان يعرف إلى أين يسير، لذلك كان أول صدام له مع الجيل السابق حين كتب سلسلة مقالات في "آخر ساعة" بعنوان "طه حسين عقبة ضخمة في طريق القصة المصرية"، لأنه كان يحاول أن يجعل من كتابة الرواية عملا ًخاضعاً لمدرسي اللغة العربية، وليس عملاً خاضعاً لمقاييس الفن الدرامي أو القصصي، كما أصدر بياناً مع الدكتور رشاد رشدي عن القصة القصيرة، وكيف ينبغي أن تكون. الصعود إلى العرش هكذا، بدأت رحلة فتحي غانم الابداعية، التي خرج خلالها إلى ربوع المجتمع المصري الرحبة، وجاس بين أركانه، بدءاً من ذهابه إلى قرية "الجرنة" المجهولة في أقاصي الصعيد. حين كان يعمل مفتشاً للتحقيقات في وزارة المعارف، محاولاً أن يفهم تشبث أهلها بالسكن في كهوف "الجبل" رافضين الانتقال إلى قرية نموذجية، صممها ونفذها مهندس عبقري على أحدث النظم المعمارية، ليكتشف أن رفض أهل الجبل للانتقال يرجع إلى الارتباط الوثيق بينهم وبين الجبل، أو هو الانتماء الحقيقي إليه. فالجبل هو الأصل وهو المستقر، ومن خلال هذه العلاقة تتشكل حركة الشخصيات من حوله، فمن يتمسك به تكتب له السعادة، ومن تسوّل له نفسه التنكر للجبل أو الهرب منه، أو التمادي في الجشع وحب الذات، أو عدم التصرف بحكمة، تحلّ على كل هؤلاء لعنة الجبل، فمنهم من يعيش مزيف الهوية، محتقرا، أو يكون مآله الجنون، أو يصيبه الموت غدرا. كما اتاحت له أيضا تجربته الروائية الأولى في "الجبل" 1957، اكتشاف أوجه الصراع بين المدينة والقرية، أو بين التقدم بمفهومه في المدينة والتخلف بمفهومه في القرية. وسرعان ما اكتسب خبرات جديدة وسّعت من زاوية رؤيته حين ارتحل الى الخارج بعيداً الى استكهولم في شمال أوروبا في روايته "الساخن والبارد" 1959 لتتكشف له أبعاد الصراع "ليس فقط بين الشرق والغرب، أو بين العربي والسويدي، ولكن أيضا داخل النفس البشرية بين لحظة صدق ولحظة كذب". ثم أتاح له عمله في الصحافة الدخول إلى دهاليزها، والغوص أكثر في أعماق المجتمع الديني، متتبعاً رحلة النفوس البشرية الضارية خلال محاولتها الامساك بالمال والجاه والشهرة والسلطة، مسلطاً الضوء على التحولات الداخلية التي تطرأ عليها، كاشفاً - في الوقت ذاته - أن الحقيقة التي قد نقبض عليها، ليس حتما أن يكون لها وجه واحد، بل قد تبدو في العديد من الأوجه المتباينة، وهو ما سعى إلى إبرازه في رباعيته "الرجل الذي فقد ظله" 1961. ثم جذبه منطق العنف الذي بدأ يتفشى في المجتمع، وفرض عليه كتابة رواية "تلك الايام" 1962، والتي انتهى فيها إلى أن "العنف لا يصنع تقدما ولا بناء ولا حضارة". ثم تعرّض للعادات والأحكام التي تسيطر وتتحكم في حياتنا عندما نترجم ما نشعر به أو تنقله إلينا الحواس، في رواية "الغبي" 1966، لينطلق ثانية عبر بانوراما موسّعة، حاول رسمها لحركة المجتمع في رواية "زينب والعرش" 1973، خلال سعي الأفراد الضاري للوصول الى السلطة، وتحقيق اراداتهم التي قد تتعارض مع الآخرين. وأنهى هذه المرحلة عام 1974 تقريباً، بكتابة رواية "حكاية تو" 1973 من واقع اعترافات بعض الضباط الذين خرجوا الى المعاش، ليكشف الوجه الآخر القبيح لانحراف السلطة نحو القمع والتعذيب والقتل في المعتقلات. إذاً، تمكن فتحي غانم، عبر تسع روايات وثلاث مجموعات قصصية، هي مجمل نتاج مرحلته الأولى، أن يبدأ من منطلق الانتماء الصحيح إلى أرض المجتمع، وبرز منذ بداياته المبكرة سؤال ظل يؤرقه طويلاً: ماذا يفسد نقاء البشر؟ ماذا يبعدهم عن الانتماء المحب، الحريص على مصالح الوطن؟ أهو البحث عن الحب، أو المال، أو الشهرة، أو السلطة؟، أم هي الرغبة في الامساك بالحقيقة، أم هو هاجس قوي لتحقيق الذات؟ وكدأبه في مباريات الشطرنج التي مارسها بحب، جرّب فتحي غانم مختلف الاحتمالات في رواياته وقصصه. رواية "الأفيال" في "الأفيال" حضور مباشر للشخصية الرئيسية يوسف، ووجود محسوس - أيضا - لبقية الشخصيات. هنا يتوّحد القارئ مباشرة مع شخصية يوسف. فليس هناك راوٍ. والرواية ذات بناء زمني، يتكون من مستويين، أولهما الزمن التاريخي، المتسلسل، الذي يعيش فيه يوسف حاضر المدينة الجديدة، ويستكشف أبعادها، وثانيها هو زمن القصة الفعلي، ماضي يوسف، المستعاد، على ومضات أو شذرات متفرقة. هذا البناء الزمني، جاء مناسباً ليعكس أزمة يوسف. إنه بناء الأزمة، التفكك، التفسخ، الهزيمة، والحساب. إنه محاصر بالزمن الماضي، مدان، تتحدد حركة في اطار هذا الزمن الراكد، ذهابا وإياباً، كمن يحمل أثقاله، أو هو يشكل كابوساً له يسعى جاهداً للهرب منه. وما قبوله بالرحلة إلى المدينة الفاضلة، الا محاولة للفكاك من إساره. وبذلك جاءت الرواية متصلة، دون أرقام للفصول، أو عناوين لها، كعالم مستمر، كما الحياة في تدفقها واستمرارها واندفاعها وامتدادها، في بناء روائي، مكثف، شديد التركيز، ليس فيه زوائد ولا استطرادات غير مبررة، اللغة نقية، ساطعة، مباشرة، تلقائية، متدفقة، تقترب من مقاطع كثيرة منها من أعذب الشعر، لكنها تؤدي وظيفتها الأساسية، كتعبير مباشر، صادق عن مشاعر يوسف. هنا حاضر جديد يتحدى يوسف في "المدينة الفاضلة"، التي رحل اليها، هرباً من ماضيه، لكن الماضي يظل ينغص عليه، ويطارده. واقع جديد، في مواجهة ماضٍ قديم، يتسلل تدريجيا من أعماق يوسف، يبدأ أولاً واهناً ضعيفاً في مواجهة حضور واقع قوي، يزداد الماضي، ويتجسد أمام يوسف. ويخفت الاحساس بالواقع الجديد، وكأنّ هناك علاقة عكسية تربط الماضي بالحاضر. إنه لن يستطيع أن يعيش حاضره في المدينة الفاضلة، إلاّ إذا واجه ماضيه. مواجهة الماضي تستدعي أن يواجه يوسف نفسه، والآخرين، والمجتمع القديم. حتى إذا ما نجح يوسف في مسعاه - الذي هيأت المدينة الفاضلة ظروف تحقيقه - تحررّ من إسار ماضيه، وأصبح من السهل عليه أن يواجه حاضره الجديد، وأن يعيشه كما يجب، وكان عليه أن يختار بين لعب الدومينو أو ممارسة الكروكية، فاختار أن ينضم الى زمرة الدومينو. رحلة نحو الدين رحلة صراع الشخصيات على سلم الصعود بدأت قوية وتصاعدت حتى وصلت إلى أوجها في "زينب والعرش" واكبتها تنويعات مختلفة على معزوفة الزواج. في ذات الوقت كانت هناك رحلة أخرى نحو الدين، بدأت باهتة في أعماله الأولى وتصاعدت عنيفة في أعماله الأخيرة، لتجد في الدين متنفسا لها، ثم تستقل تماما في مجموعته القصصية الأخيرة "بعض الظن إثم .. بعض الظن حلال" 1991 هنا، لا بد من وقفة، لنقارن، فالدين يبدو هنا نافذاً في حياة هؤلاء الأفراد اليومية .. في رواية "قليل من الحب .. كثير من العنف" 1985 يونس تزوج فاطمة، لتقديم العون والمساعدة لها، وهو شعور ديني، فهمه خطأ على أنه حب، أما الأم والأب فقد عزلا نفسيهما، عزلاً إرادياً بين طقوس دينية. لقد اهتمت الأم بمظاهر شكلية للدين. وأغرقت فيها نفسها، هرباً من مواجهة الواقع، كذلك فعل الأب، حين راح يتلمس العزاء بين أداء طقوس الدين وقراءة القرآن والفقه أو النوم، تنصلا من مسؤولية مواجهة الواقع. إنها دعوة للاقتراب من الدين، وفهمه الفهم الصحيح، بدلا من الهرب من مواجهة الواقع المعاش بطقوس متطرفة. *** في رواية "بنت من شبرا" 1986 يعمق فتحي غانم ما بدأه في الرواية السابقة، من حتمية الاعتماد على الفرد في التطبيق الصحيح للدين، في غيبة سلطة الدين السياسية والعسكرية وغيبة سلطة رجال الدين وفي ظل مشيئة إلهية عليا، تحرّك الكون، وتدير الحياة، وتدفع بمصائر البشر إلى غاياتها الأخيرة. فها هي ماريا الايطالية، المسيحية بعد أن تزوجت كريم النموذج الجديد للفرد المحامي بما يعني الوعي الكامل بحقوقه وواجباته في المجتمع، طبقا للقانون الوضعي، المسلم المتفهم لروح الدين الاسلامي. هنا، لقاء متسامح لحركة الاديان، دعوة لتوسيع الآفاق، للانفتاح على الآخرين، لاستيعاب الواقع، للحب، فكان حتما أن يبكي كريم، وهو يرى بين دموعه آخر ما تبقى له من جدته. لقد وضح ان كريم يحبّ جدته، وهذا الحب غلب أي أفكار أو اجتهادات سياسية أو دينية تورط فيها. إن مشاعر الحبّ بين الجدة والحفيد لن تتعارض مع شعور ديني صحيح. وكان منطقياً بعد ذلك، أن يعود فتحي غانم ثانية الى أرض الواقع، في قصة "التوأم" - مجموعة "بعض الظن إثم .. بعض الظن حلال" 1991. ليقدم خلاصة تجاربه وعصارة فنه. "التوأم" تلخيص، أو رمز للحياة نفسها، شخصاها هما وجها الحياة .. في هذه القصة، نحن في مواجهة صراع أزلي بين الحياة الدنيوية ومغرياتها المادية، متجسدة في شخصية صفوت، وبين الحياة الروحانية، المتواضعة، البسيطة، متمثلة في وجهها الثاني يوسف. في رواية "ست الحسن والجمال" أضاف فتحي غانم لبنة أخرى الى بناء عالمه الروائي الشامخ، مزاوجاً بين سلطة الجمال وسلطة الحكم وسلطة المال. ولكن الجديد هنا ان مصائر شخصيات الرواية الرئيسية اتخذت - بشكل من الاشكال - مساراً اخلاقياً. فالمرأة الباهرة الجمال "دينا" بعد ان اعتلت عرش الجمال والسينما لسنوات طويلة، اذا بها تنتهي الى الايمان والتكفير عن ذنوبها والتوبة وطلب الغفران. والمخرج الاميركي "زخاري، مكتشف "دينا"، والذي دفع بها الى عالم السينما والشهرة، انتهى الى الفشل والنسيان وترددت الشائعات حول اختفائه. وايضاً مراد "رجل المخابرات القوي الوسيم" الذي استغل الثورة وتزوج "دينا"، إذا به ينتهي نهاية فاجعة بعد هزيمة 1967، حيث انتحر، واخيرا "سيد الحسيني"، الذي تحوّل من ديني متعصب الى عملاق من اباطرة الانفتاح الاقتصادي، لينتهي امره ايضاً الى القبض عليه ومصادرة امواله. إذاً، يمكن اعتبار أن فتحي غانم قد دخل عالم الادب من منطلق ذاتي للبحث عن اجوبة تساعده على التعرّف على ذاته، في محك صراعها مع التربية المثالية التي نشأ في كنفها، فأحاطته بسياج من العزلة وصنعت منه متفرجا على ما يجري في الدنيا من حوله. رحلة الأدب إذاً، هي رحلة بحث عن الذات، واكتشاف أبعادها، والتعرف على أغوارها. لكن هذه الرحلة، لم تكن لتؤتي ثمارها، إذا انغلق على ذاته - رغم أنه فعلا أنغلق على نفسه لمدة عشر سنوات لإعداد نفسه لخوض غمار عالم الادب - بل كان لا بد أن يتفتح على الحياة من حوله، بكل ما يكتنف المجتمع من صراع ومتغيرات وتيارات. فحركة الكون، ودورة العصر، واندفاعة الحياة، هي المحك الحي، الذي يطور ذات الفنان ويبلور اسلوبه الخاص ويجسّد رؤيته للعالم، حتى يتسنى له - في النهاية - فهم نفسه وفهم الحياة من حوله، لكنه لا يحتفظ بهذا الكشف لنفسه، بل يشرك فيه القراء، من خلاله أعماله الفنية.