كل خطابٍ سلطة. وغالباً ما تتحدد فاعليته عبر امتداد سلطته وتأثيرها، والتي تتجلى بالتأثير في سلوك المتلقي، وتوجيهه إلى الغاية التي من أجلها أنتج الخطاب. ومن المفارقات التي أنتجتها الثورات العربية تفرد خطاب السلطة، بكونه بلا سلطة! ولنسمع عن لسان أحد القادة، في أحد خطاباته:"سيقولون هذا غير كافٍ". وكأنه اعتراف علني بفقدان هذا الخطاب لسلطته، وتوقع عدم فاعليته. فقدان الخطاب سلطتَه أمرٌ في غاية الخطورة، ذلك أنه يؤسس لانقطاع الحوار"المضمر والعلني"، ومن ثم لحالة إلغاءٍ وإقصاء، وأخيراً حالة الإيذان بمرحلةٍ تاريخيةٍ جديدةٍ تستوجب نوعاً آخر من التعاطي. ولئن غضت السلطات العربية الطرف عن فقدانها سلطة الخطاب، فقد عملت على أرضية وهم لم تبدده إلى الآن تجارب الأنظمة التي سقطت أو التي في طريقها إلى السقوط. ذلك أنها وأمام دهشتها مما يحصل، لم تنتبه إلى الحلقة المفقودة، والتي غالباً ما يصفها المحللون السياسيون بالتأخر الزمني، أو اقتضاب الاستجابة. وإذا ما لاحظنا إسراع بعض قادة الدول التي لم تصبها عدوى الثورات بعد، إلى تقديم خطابات تنطوي على استباق مطالب كانت مؤجلة حتى هذا الوقت، بل على الوعود بما لم يطلب بعد! وإذا ما لاحظنا أيضاً التدرج في الليونة الذي حملته الخطابات السلطوية في الفترة الماضية، والتي لم تلقَ أية فاعليةٍ على مستوى الشارع، لتوصلنا إلى حقيقة مفادها أن ليس التأخر أو اقتضاب الاستجابة، ما يسحب قابلية الإقناع من هذا الخطاب أو ذاك، بل فقدان الثقة بين شعوب المنطقة العربية وقادتها، لدرجة أنه خلق منعكساً شرطياً لدى الشعوب يميل إلى تكذيب أي خطابٍ يصدر عن أي سلطة. فما إن يصدر حتى نرى الرفض بأشكاله المتنوعة في اليوم التالي. وفي بعض الحالات يكون الخطاب محفزاً على التمرد كنوعٍ من تأكيد رفض الخضوع لسلطة الخطاب الذي أصبح غير مقبول، حتى ولو احتوى في طياته على ما يفوق المطالب التي ينادي بها المحتجون. إن أهم أشكال الفعل الثوري في الانتفاضات العربية هو الثورة على السلطة بمختلف أشكالها. وهي الآن تؤسس لحالة جديدة على مستوى الخطاب، فقد كف الخطاب عن ممارسة سلطته بالمعرفة التي يحتويها. فلم تعد تتعلق السلطة بحجم المعرفة التي تقدم أو التفصيلات التي تذكر أو المطالب التي ستلبى. بل حتى لو تغير مصدر الخطاب، فلن تكون له أي سلطة ما لم تتغير الآليات التي أنتجت منعكس التكذيب. فإذا ما أراد الخطاب استعادة سلطته فإن عليه ردم هوة فقدان الثقة المتبادل، وإعادة جسور التواصل، عبر إنتاج القناعة والتصديق والتأثير. وهذا الجديد يقتضي إعادة الاقتران بين الكلمة والواقع، وإعادة المعنى للغة عبر الممارسة. ففرادة ما يحدث وتسارعه يسحبان من الخطاب بعمومه ميكانيزم الفعل ليغدو الفعل نفسه ميكانيزم الخطاب. إن انفلات الشارع العربي من قبضة الخوف، واتساع رقعة الاحتجاجات المطالبة بالحرية دليلٌ على انفلات الوعي من قوقعة الأيديولوجية السلطوية القائمة على لزوم التصديق ومن ثم التصفيق. ولن يعود هذا الوعي إلى قوقعته ليقوم بدور المتلقي المطيع. لذلك لا بد لأي خطاب يوجه إليه، من أن يكون خطاباً يتسع لاستطالات هذا الوعي التي أنتجتها تجربة الحرية الجديدة في المنطقة العربية. لذلك، فأهم انتصارات الثورات العربية أنها هزمت خطاب السلطة القديمة هزيمةً نكراء بأن أفقدته سلطته، وأحالت هذه السلطة إلى الفعل وإلى خطابٍ مرئي لا خطابٍ مسموع. * كاتبة سورية