تثير الانتفاضات الجارية راهناً في اكثر من مكان في العالم العربي اسئلة مؤرقة عن الاسباب التي تتحول فيها تظاهرات سلمية تدعو الى الاصلاح والتغيير المشروع، الى حمامات دم تُغرق فيها الاجهزة الامنية جموع المحتجين، وتتسبب في ضحايا واضطرابات تجعل من تصعيد المطالب ممراً حتمياً يصل الى المطالبة بإسقاط النظام. يبدو السؤال مشروعاً في ضوء مقارنة بما حصل في بلدان اوروبا الشرقية والاتحاد السوفياتي نهاية الثمانينات من القرن الماضي، حيث أمكن تغيير النظام في معظمها من دون تحوّل مطالب التغيير الى حمامات دم فيها. تفتح المقارنة على ضرورة التدقيق في طبيعة بنى الدولة وتكوّن المجتمع وموقع السلطة والتراث الموروث في ممارستها. تتشابه انظمة المعسكر الاشتراكي السابق في اوروبا مع الانظمة العربية في عدد من المفاصل الجوهرية. فهي انظمة استبدادية تهيمن فيها اجهزة الامن على مؤسسات الدولة والمجتمع، وتلتقي في احتكار السلطة من حزب واحد يمنع القوى السياسية الاخرى من الفعل إلا اذا كانت تابعة له، وتقيّد حرية الرأي والتعبير وتهيمن على اجهزة الاعلام والتوجيه، وتضع معارضيها في السجون او المنافي او القبور... فلماذا امكن مجتمعات اوروبا هذه ان تجنّب بلدانها كأس الحروب الاهلية والعنف عندما دقت ابواب التغيير بعد عقود من التسلط، فيما تتحول الانتفاضات العربية الى عنف يومي والى شلالات انهر من الدماء تسقط هنا وهناك؟ منذ ان انطلقت الانتفاضات العربية بدءاً من تونس وصولاً الى سورية، يبدو العنف عنواناً موحّداً لمسلك الانظمة في الجواب على التظاهرات السلمية التي انطلقت. في تونس سقط حوالى 423 مواطناً، وفي مصر اظهرت التحقيقات الاخيرة مقتل 864 مواطناً، على رغم اعتبار الانتفاضة في هذين البلدين اقرب ما تكون الى عملية سلمية. اما في اليمن وليبيا وسورية، فإن العنف هو اللغة الوحيدة في الجواب، وهو عنف حصد حتى الآن آلاف الضحايا ولا يتوقع له ان يرتوي في امد قريب. بعيداً من ديماغوجيا الانظمة ولغتها التي تحيل فيها التظاهرات الى مؤامرات خارجية تستهدف هذا البلد او ذاك، ومع التأكيد المعروف ان التظاهرات انطلقت في كل البلدان العربية في وصفها تظاهرات سلمية، وليس تمرداً مسلحاً كما ترغب وسائل إعلام الانظمة في تصويره، لكن جواب اجهزة السلطة في كل مكان كان جواباً مسلحاً في شكل مباشر، وهو ما دفع بعض الانتفاضات لأن تسلك في مسارها الى نوع من العنف المقابل، وإن كان لا يوازي او لا يقاس بحجم العنف المستخدم من اجهزة السلطة، والمقصود ما يحصل في ليبيا واليمن. يمكن الناظر الى بعض المؤشرات السياسية السائدة في العالم العربي ان يفسر لماذا تتحول مطالب الاصلاح الى اعمال عنفية، فالدساتير العربية في معظمها لا تنص على زمن محدد لتداول السلطة من نوع تعيين فترة محددة، مرة او مرتين، لا يعاد فيها انتخاب الحاكم، بل تبدو الدساتير مفتوحة لسلطة لا حدود زمنية لانتهاء الولاية فيها سوى موت الحاكم. حتى في بلد مثل لبنان حيث يحدد الدستور ولاية واحدة للرئيس غير قابلة للتجديد، فقد عمدت سلطة الوصاية السورية على نسفها مرتين عبر فرض التجديد لرئيسين للجمهورية، وذلك تيمّناً بما هو حاصل عربياً. أما طبيعة السلطة ومؤسساتها، فقد غلب عليها الطابع الامني، بحيث جرت تقويتها الى اقصى الحدود، وتسليطها على الشعب وتحوّلها الى السلطة الحقيقية التي تفرض على المؤسسات الشرعية طبيعة القوانين المفترض وضعها. نجم عن هذا التكوين نشوء سلطة افرزت قوى ونخباً حاكمة اعتبرت الدولة مجرد ملكية مطوّبة لها، يحق لها نهب اموالها وثرواتها، والتسلط على الشعب وقهره من خلال الدولة الامنية الموضوعة في خدمتها. هكذا انتشر الفساد والمحسوبية والزبائنية، وتحول الولاء الى هذه الزمر بديلاً من الوطن والمؤسسات الشرعية. في مقابل ذلك، كان القهر والقمع السياسي والفكري وتقييد الحريات والتنكيل بالمعارضات طريق هذه النخب لإدامة سلطتها والاحتفاظ بها. ترافق ذلك كله مع سياسات إفقار وتجويع للغالبية العظمى من الشعوب العربية، بما جعل أقساماً واسعة منها تعيش تحت خط الفقر، مقرونة ببطالة واسعة تطاول أجيالاً من الشباب المتخرج في الجامعات والعاجز عن تأمين فرص عمل، وعجز عن بناء تنمية تنتشل هذه الشعوب من حال البؤس. يحدث ذلك وسط مشاهد صارخة على نهب ثروات البلاد من جانب نخب فاسدة، وتحويل هذا الفساد عملية واسعة لكسب مراكز القوى. لعل ما قدمته الاحداث من كشف عن حجم ثروات الحكام ونهبهم لأموال الدولة يعبّر عن القليل مما هو سائد. عندما تتركز مطالب الاصلاح على تداول السلطة وتحديد فترة زمنية يتغير فيها الحاكم، وعندما تتوجه الى تحقيق الديموقراطية بما تعنيه من حرية تكوين احزاب سياسية وحق المعارضة في العمل وإطلاق حرية الرأي والتعبير، وعندما تدعو الاصلاحات الى كف يد الاجهزة الامنية عن قمع المعارضين وكمّ الافواه، وعن تحسين مستوى الحياة المعيشية للمواطن وتوظيف ثروات الشعوب لمصلحتها... فإن هذه المطالب الاصلاحية تكون لدى هذه النخب الحاكمة بمثابة نفي لذاتها وقضاء على مواقعها الابدية في السلطة، وأن الرد على ذلك يستحيل ان يكون بالاحتكام الى الشرعية الدستورية، بل باستخدام اقصى انواع العنف والترهيب وإعادة الشعوب الى القمقم الذي سُجنت فيه. في عالم عربي تهيمن فيه ثقافة الاستبداد والقهر من جانب الحاكم، وتبتعد ثقافة الديموقراطية وتداول السلطة عن عقول النخب الحاكمة، وفي ظل عقود من القمع الدامي، يبدو السؤال الدائر لدى اهل النظام عن سبب قيام الانتفاضات ووصمها بالمؤامرة غريباً، لأن السؤال الفعلي هو: لماذا تأخرت هذه الانتفاضات في الاندلاع الى هذا الحد من الزمن المديد؟ مع هذه الاحداث الجارية التي تبشر بأمل في التغيير، وبالنظر الى الاجوبة العنفية المقدمة من السلطات، سيكون على الشعوب العربية دفع أثمان غالية تحقيقاً لحريتها ولإصلاحاتها، وسيرتفع منسوب الدماء كلما اصرّت هذه الشعوب على مواصلة النضال من أجل التغيير. * كاتب لبناني