يدخل اعتصام أهالي محافظة قناجنوب مصر أسبوعه الثاني، وتختلط فيه نية الاعتصام بين رفض المحافظ الجديد على أسس طائفية كونه مسيحياً ورفضه على أسس سياسية كونه قيادياً سابقاً في جهاز أمن الدولة السيء السمعة، فيما ينشغل المجلس العسكري متعاوناً مع حكومة تصريف الأعمال بإثبات الحزم العسكري المعاند. فهل من جديد في هذا التعامل المفتقد لمرجعية واضحة تنتصر لقيم ثابتة يمكن الاحتكام إليها مستقبلاً؟ لا جديد من الأساس في عدم تجذر الروح الثورية في اختيار المجلس العسكري لخطوات المرحلة الانتقالية. فرعايته التي تنحو إلى ممانعة التغيير الجذري إلا تحت الضغط الجماهيري وبأقصى درجات التسويف، متأصلة منذ المشهد الأول لدخوله ميدان التحرير يوم 28 يناير، بخاصة في ما يختص بعصب نافر اسمه التوترات الطائفية. شاهدنا الأمر في أزمة قرية أطفيح، ثم في اشتباكات منطقة منشية ناصر، ثم في التغاضي عن قطع أذن مواطن مسيحي وحرق بيوت آخرين في محافظات الصعيد. كان الأمر منذ البداية لا يتطلب إجراءً استثنائياً، فتجريم التحريض الطائفي والنص على عقوبة مغلظة له لا يقل أهمية عن تجريم الاعتصامات الفئوية، بخاصة أن روح الميدان التي رفعت شعار"مسلم... مسيحي... إيد واحدة"مثلت منطلقاً إجماعياً كان من الممكن البناء عليه، وذلك في مواجهة تركة المصهورات التحت أرضية لعصر الرئيس السابق، القادرة على الانفجار في أي زمان ومكان دون استئذان أو شرط موضوعي. بل يشكل تجريم التحريض صمام أمان في مواجهة موجة العلانية السلفية التي أخرجت جماعات متنوعة من هذا التيار من التحريض المتواطئ عليه على المنابر إلى التظاهر بأبغض الشعارات المدعية الديموقراطية. فالسلفيون الذين جن جنونهم بافتقادهم إما للرعاية الأمنية الباطشة أو الداعمة، يتحركون بسيولة داخل ثنايا تخثّر السلطة في مصر، مستغلين في ذلك ارتباك المجلس في تحديد هوية مصر ما بعد الثورة، كما يستغلون المسافة الشاسعة بين القوى السياسية المدنية والشارع بجماهيره. يملأون حيز ضعف الإنجاز الثوري في المجال الاقتصادي والمجتمعي بأجندة"إطلاق سراح كاميليا"أو الاعتراض على تعيين محافظ قبطي، مقدمين نفس الخدمة التاريخية لقوى الإسلام السياسي مع نظام مبارك، حين كانت التوترات الطائفية قنبلة الدخان المعتمدة لإلهاء المواطنين عن المآسي اليومية. ينفي المجلس العسكري في بياناته أي طبيعة دينية لمستقبل مصر، بل ينفي الإخوان بنفس الحماس نفس المستقبل، ويتوقف الأزهر عند الممارسة الشكلانية لدوره كمؤسسة وسطية حكيمة، وكأننا نستنسخ الطور المباركي في معالجة ميوعة تحديد الهوية المدنية للدولة. ويرى العقل الجمعي للمصريين تواطؤ الجميع على عدم حسم المشكلة فيزداد جنوحه نحو مزيد من التشبث بها، بل وتتبلور إسلامية مصر كهدف براغماتي في لحظة غموض البوصلة السياسية للثورة. يرعى الإخوان المسلمون هذه النار المستعرة بصبر وابتسامة تشفٍ، فالسلفيون يمهدون أرض معركة الانتخابات البرلمانية القادمة لمصلحة الاستقطاب الديني الذي يخدم مرشحيهم، بل إن مئات الآلاف من السلفيين وملايين الصوفيين سيتجاوزون سريعاً خلافاتهم الفقهية لمصلحة الانتصار لقيمة الإسلام كما تمثلها وسطية مرشح الإخوان، في مواجهة أي مرشح ديموقراطي أو ليبرالي أو علماني، في مواجهة المرشح القبطي والمرشحة الأنثى، وفي مواجهة أعداء الثورة من بقايا الحزب الحاكم بنفس درجة الحماس لمواجهة الثوريين أنفسهم. الكتلتان السلفية والصوفية كانتا جزءاً تاريخياً من الكتلة الصامتة انتخابياً. الصوفيون على الأقل كانوا ينزلون للتصويت في استفتاءات تمديد الرئاسة بإشارة مبايعة الشيوخ نحو 10 ملايين، فيما لا يعرف لهم خريطة واضحة في الانتخابات البرلمانية، أما السلفيون فالأعم في تيارهم هو احتقار البرلمان والممارسة السياسية، وفي أقليتهم المرتبطة بأجهزة الأمن كانوا يصوتون للحزب الحاكم في مواجهة الإخوان. المشهد الاستقطابي الجديد يعيد مصر إلى انقسام الخاصرة كما حدث في معركة التعديلات الدستورية: فئة مؤمنة وأخرى كافرة. بالعودة لمنهج إدارة المرحلة الانتقالية، يبدو المجلس العسكري مصمماً على تفريغ الساحة لهذا الاستقطاب، فشرط ال 5000 عضو مؤسس لإشهار الأحزاب الجديدة يبدو تعجيزاً مقصوداً للقوى الثورية الجديدة. ثم إصرار المجلس في اختياراته للمحافظين أو لباقي قيادات المرحلة على كولاج يجمع بين النظام السابق وأكسسوار من أفراد الثورة، يؤكد النية المبيتة على تلغيم المرحلة الانتقالية بمفجرات سريعة الاشتعال. لا يتعلق الأمر هنا بمجرد ارتباك ومحافظة المجلس العسكري وضعف روابطه بالسياسة وخرائطها المعقدة، بل أيضاً بضمانة انشغال الجميع بمبايعته سياسياً كسلطة إجماع وطني تفصل بين المتصارعين. هكذا تبدو الرخاوة واللاحسم منهجاً لتعضيد الموقع والمكانة لا مجرد فوضى غير مقصودة. فالمجلس العسكري لم يطبق حكماً عسكرياً استثنائياً بحق أي متهم في جريمة طائفية، بل يلجأ إلى السلفيين وقياداتهم كشركاء في إفساد مسرح الجريمة، يؤمن لقياداتهم الحركة لإطفاء الحرائق بعد تجاوزها الحد المسموح لها، وقد سجلت حوادث فض اعتصام التحرير الدامي والقبض على نشطاء في مؤتمر لمواجهة المحاكم العسكرية تعاوناً بين الشرطة العسكرية وقيادات سلفية. ونحن هنا لا نرقى بشكنا لمصلحة الممارسة المنهجية، فقد يكون ذلك التعاون تكتيكياً وانتقائياً، لكن المؤكد هو ركون قيادة المجلس العسكري إلى إستراتيجية ما قبل ثورية في التلاعب بكل الأوراق، كما تختصره الحكمة الشعبية"اللي تغلب به إلعب به". حالة محافظة قنا الأخيرة، حيث يتفاعل الشرطان القبائلي بالطائفي، تثبت انفلات المعادلة. فلا زيارة وزير الداخلية ووزير الحكم المحلي نفعت في إثناء المعتصمين عن فتح الطرق وخط السكك الحديد الذي يصل السائحين إلى جنوب مصر، ولا الإسقاط المظلي لبعض القيادات التلفزيونية للحركة السلفية أتى بثماره. وتبدو المحافظة البعيدة العصية على التناغم مع الحسم المركزي أسيرة لتحركات بعض فلول الحزب الحاكم التي حرضت على الاعتصام، متحالفة مع النشاط السلفي ومع مكون ثوري يرفض خلفية المحافظ الأمنية. هكذا يندمج الوعي الثوري بالوعي الطائفي بالانتهازية السياسية، فهل نتوقع من المجلس العسكري الانتصار مثلاً لقيمة مثل انتخاب المحافظين، بوصف ذلك مطلباً ثورياً عادياً، أم أن العناد العسكري سيكتفي بتسجيل الموقف على قوى الثورة المضادة؟ المؤكد أن مزيداً من خلط الأوراق سيستمر، طالما ظل ازدواج المعايير هو الفضاء الحاكم للمرحلة الانتقالية.