عَلِم الأبناء الثلاثة بمرض أمهم. كانوا في المدينة الكبيرة لا يأبهون. أسرعوا يخترقون حارات القرية المظلمة. أوسعوا زوجها ضرباً بالنعال. أقسم أن كل ما كان يملكه راح في علاجها. ملامحه تكذب، على رغم محاولاته رسم قناع مهلهل للصدق. قال الكبير: ابتلعت ذهبها واكتفيت بحشو فمّها بالمسكنات. اتفقوا على ضرورة نقلها فوراً الى المستشفى أو إحضار طبيب. قال زوجها المبتل بالخوف والكذب: علينا الانتظار حتى الصباح، فالمطر ينهمر منذ ساعتين ويبدو أن لا نهاية له، والمستشفى بعيد جداً وخال من الأطباء والأدوية. - هل الطبيب بعيد أيضاً؟ - في القرية المجاورة. سيغلق عيادته بعد نصف ساعة. لا مفر من نقل الأم التي تعرضت لإهمال جسيم. همّوا بعزم، فحملوها. اكتشف الأصغر أن عجلات سيارته غاصت في الطين. حاولوا تحريكها أو رفعها من دون جدوى. أصروا على التوجه الى الطبيب بأي وسيلة. ساروا نحو كيلومتر. تعبوا فوسدوها الأرض. ثم تعجّلوا، فجرّوها جرّا على التراب والحصى. المطر لم يتوقف. كانت أقصر الطرق إلى القرية المجاورة موحلة جداً. اتفقوا على تعذر اختيار طريق أخرى. الوقت يمر والطبيب على وشك إغلاق عيادته. واصلوا جرَّها. كلما تأوهت، قالوا: صبراً يا أمنا، ستنتهي مأساتك قريباً جداً. وصلوا أخيراً إلى العيادة التي أغلقت أبوابها. هدّهم الإجهاد. تلفتوا نحو الأم. أشعل أحدهم قداحة. تحسس الكبير قلبها. كان يخفق في وهن. أنفاسها بطيئة خافتة. قال الأوسط: لن نعود، سنبحث عن الطبيب ونحضره. لم يجدوا من يسألونه عن بيت الطبيب. انسدت الطرق كافة في وجوههم. اضطروا للبقاء حتى الصباح. ساورهم أمل بعدما توقف المطر. مع بواكير النور فتح الطبيب النافذة وألقى نظرة على الملطخين بالوحل. ركب سيارته ومضى من دون أن يحفل بزواره. طرقت الشمس أبواب أجفانهم. قال أوسطهم: نحن بحاجة إلى قدَر يتعاطف مع الحالة المتردية التي بلغناها. تبادلوا نظرات العجز واستسلموا لقطرات المطر الذي بدأ يسقط من جديد.