لا يكتفي الهادي خليل، الناقد والأكاديمي التونسي الذي يدرس في جامعة الملك سعود في الرياض، بتحليل الأفلام السينمائية، في كتابه"من مدونة السينما التونسية: رؤى وتحاليل"المركز الوطني للترجمة تحليلاً مشوقاً، من دون تعقيد أو إدخال القارئ في متاهة النقد الفيلمي، إنما أيضاً يفسح مجالاً للنقاش حول قضايا السينما في تونس والتحديات التي تواجهها. إضافة إلى ما يقدمه من إطلالة بانورامية على هذه السينما، مع إشارة إلى ما أضحت السينما المغاربية، في شكل عام، تمثله من تأثير في السينما العربية، لناحية دفعها إلى التفكير في طرق قصّها لمواضيعها، بفضل تلك الجرأة التي يتحلى بها بعض السينمائيين في دول المغرب، وإصرارهم على إنجاز أعمال خارج المسالك المعبدة والأساليب المستقرة... إذاً، يجمع الكتاب بين متعة اكتشاف ما يضمره الفيلم من مضامين ورؤى، متوقفاً عند أداء الممثلين وحركتهم وتعابير أجسادهم، في ما يشبه تحريض القارئ أحياناً، على البحث عن هذه الأفلام ومشاهدتها، من ناحية، وبين طرح أبرز الإشكاليات التي يعانيها السينمائيون التونسيون من ناحية أخرى. يبدو الهادي خليل متماهياً مع موضوعه ومستمتعاً أيضاً، لذلك لا نستغرب حين يعترف بأن السينما منحته هويته الحقيقية وأعطت معنى لحياته،"وهي التي مكنتني من امتلاك زمنية خاصة بي". ينقسم الكتاب، الذي صدر للمرة الأولى باللغة الفرنسية في عام 2006، ثم عاد المؤلف لينقله إلى العربية أخيراً، إلى أربعة أقسام: الستينات والسبعينات، فترة التأسيس: الرهانات والتحديات. الثمانينات والتسعينات: سينما المؤلف. قضايا وأعلام وإشكاليات. وأخيراً رجع الصدى: الالتزام المغاير. شاهد المؤلف معظم أفلام التونسية بكل أصنافها، الطويلة والقصيرة، المحترفة وسواها، لذلك فكتابه يتضمن تحليلات للأفلام التونسية، انطلاقاً من سنة 1967، تاريخ عرض أول شريط تونسي طويل وعنوانه"الفجر"لعمار الخليفي، واختتاماً بأعمال الجيلاني السعدي، الذي يعد حالياً من أبرز الوجوه السينمائية التونسية الصاعدة. ويحرص الهادي خليل على وضع السينما التونسية في سياقها السياسي والتاريخي الدقيق، إذ يصعب، في رأيه، فهم أهم التوجهات التي طبعت أول الأفلام التونسية"إذا تناسينا الدور البارز للحبيب بورقيبة، الرئيس السابق الذي حكم البلاد على امتداد ثلاثة عقود من 1957 إلى 1987 في بلورة السياسة السمعية والبصرية في البلاد والتحكم في دواليبها وهياكلها". فالتحولات والتقاطعات والتباينات التي عرفتها السينما التونسية، وفقاً للكتاب، تحددت في مجملها على ضوء شخصية"المجاهد الأكبر"ووفق وتيرة المد والجزر بين المعجبين بها والمناوئين لها. طموح مشروع لا يخفي المؤلف أن هناك كتباً صدرت قبل كتابه هذا، غير أن ذلك كان في فترات ماضية، لذلك أصبحت قديمة كثيراً، من هنا كان التفكير"في تأليف كتاب طموح عن المدونة السينمائية التونسية، استنارة ببعض المراجع والمقالات الصحافية الجادة لبعض النقاد الأوائل". ويرى أنه لا يوجد اليوم كتاب واحد أخذ على عاتقه مهمة قراءة السينما التونسية قراءة شمولية،"يؤرخ لظهورها وتطورها، ويضبط محاورها التيمية ويحدد تحولاتها البارزة وتمفصلاتها الناتئة". يحرص خليل على تحليل الأفلام وتقصّيها، فمرة يجنح نحو الإلمام بالمؤلفين والتيمات والأغراض، ومرة أخرى بالقضايا والرهانات والإشكاليات، إذ يطمح كتابه إلى هدف واحد،"أن يكون أداة فاعلة، يمنح سواء للمتفرج العادي أو للباحث المختص الفرصة لمشاهدة الأفلام، ورصد أهم تحولات السينما التونسية الحاسمة". يؤكد المؤلف أن ليس من المبالغة الجزم بأن أفضل ما أنتجته السينما التونسية، جاء من وسط الهواة الذين تحدوهم عقلية فطرية تلقائية صادقة، متوقفاً عند عمار الخليفي الذي يعد جزءاً من باكورة السينما التونسية الهاوية،"وهو واحد من مؤسسيها وروادها الذي ظل متمسكاً بوضع السينمائي الهاوي هذا، حتى بعد أن أخرج أشرطته الطويلة الأولى بوصفه محترفاً". يتذكر المؤلف أن الجامعة التونسية للسينمائيين الهواة، التي تأسست عام 1962، لعبت دوراً مهماً، عبر مهرجان قليبية للفيلم غير المحترف الذي يقام منذ نشأته 1964 مرة كل سنتين،"في إرساء حركية سينمائية وثقافية استقطبت جماهير غفيرة من كل شرائح المجتمع. وما كان للسينما التونسية المحترفة أن تتطور وتشع لولا الإسهام الحاسم لذلك المخبر الحيوي، بكل تجاربه ومحاولاته وتطلعاته وإحباطاته". لم تكن حركة السينمائيين الهواة، ضيقة الآفاق والرؤى أو متقوقعة على ذاتها، يقول الهادي خليل،"ففي الأفلام الروائية أو الوثائقية التي أنجزتها، أثبتت أنها قادرة على أن تكون مرآة عاكسة لأهم التحولات الاجتماعية والسياسية التي عرفتها تونس. قادرة على استقطاب تعبيرات متنوعة وحساسيات متعددة. إن قسماً مهماً من تاريخ تونس السياسي والاجتماعي والثقافي، بكل ما يحمله من أزمات عاصفة، يتجسد في بعض الأفلام الهاوية سواء في شكلها الوثائقي أو الروائي". انفتح السينمائيون الهواة على تجارب المبدعين الكبار في العالم، مثل أفلام الروسي سيرغاي أيزنشتاين، وتيار الواقعية الإيطالية الجديدة، والموجة الفرنسية الجديدة وسينما أميركا اللاتينية."لقد كانت الأفلام المنجزة، في تلك الفترة الذهبية من حركة السينمائيين الهواة، عاكسة لتلك المرجعيات العالمية. وكانت أولى الأفلام المنجزة من السينمائيين الهواة لافتة، لا بجرأتها ووجاهة مقارباتها فقط، وإنما أيضاً بفضل كتابتها المحكمة المتقنة". من الطبيعي أن يتطرق الهادي خليل إلى"سينما المؤلف"، باعتبارها إحدى المحطات المهمة التي أثرت السينما في تونس، وطبعتها بالجرأة والغرابة أيضاً. ومن بين المشتغلين الذين لفتوا الأنظار في"سينما المؤلف"، الناصر خمير الذي يوليه خليل وقفة خاصة، فأفلامه تنتسب"إلى فن التشتيت اللذيذ وإلى فيض من الألغاز، التي لا تبوح بسرها بيسر". يعتبر المؤلف أن سينما خمير"سلسلة من"البطاقات البريدية الجميلة"، جدول"زخرفة وتطريزات تغريبية"، بقايا بذخ ضد الزمن وضد التيار ل"استشراق تائق إلى الماضي"، يبدو من قبيل الحكم المجاني الكسول"، مؤكداً أن الناصر خمير من السينمائيين التونسيين والعرب القلائل،"الذي جعلوا من أفلامهم استكشافاً شكلياً تنصهر في قالب جمالي متناسق العناصر، سواء تعلق الأمر بالأضواء والألوان والألبسة أو بالأغاني والأصوات". يحلل المؤلف بعض أفلام الناصر خمير، مثل"الهائمون"و"طوق الحمامة"، ليخلص إلى أن سينما الناصر خمير"متكورة على نفسها من دون تقوقع، مترنحة وحثيثة، هادئة ومدوية مثل شرارة البرق، متماثلة ومختلفة دوماً، وهي لولب يبتلع ويلفظ في آن". أفلام نادرة كما يتقصى الهادي خليل أفلاماً يعتبرها نادرة ومتفردة، مثل"ريح السد"للنوري بوزيد، الذي يرى أنه فيلم"ساطع لا يمكن التغاضي عنه إطلاقاً". أما مفيدة التلاتلي، صاحبة فيلم"صمت القصور"، فيقول عنها:"إنها سيدة السينما التونسية بلا منازع". ويلفت إلى أن"صمت القصور"يفوح بموهبة امرأة أصيلة"عرفت كيف تنتظر فرصتها". ويصفها ب"البرغمانية"نسبة إلى المخرج السويدي انغمار برغمان. ويقول إنها فنانة مجذوبة بالصورة السينمائية،"تعرف كل متطلباتها وتتحمل كامل عذاباتها". إن مفيدة التلاتلي، وفق المؤلف، حساسة جداً تجاه الألم،"تجعل منه لحنها، جامعة بين الصرخات والهمهمات وبين التنفيس الذي لا يحتمل والكبت المؤلم، وبين"خارجية"مهددة و"جوانية"يفخخها شعور بالذنب". في الكتاب يتساءل الهادي خليل: ما هي صيغ حضور الكتّاب في الأفلام التونسية؟ وهل نجح السينمائيون التونسيون في اقتباساتهم السينمائية؟ كيف نفسر ابتعاد السينما التونسية عن الأدب الوطني بعد تجربة الستينات والسبعينات الثرية؟ ويوضح أن الكتاب يبدو شبه غائب في السينما التونسية والعربية بصفة عامة،"ولا تتوافر سوى أفلام رديئة على المستويات كافة"، موضحاً أن الكتاب هو الطفل اليتيم في غالبية الأفلام التونسية، غير أنه يستثني أفلام الناصر خمير، وبخاصة"طوق الحمامة المفقود". سينما لقيطة وسينما هرمة من المواضيع المثيرة في الكتاب، توقف المؤلف عند ما فعله الفاضل الجعايبي ومحمد بن محمود بالسينما المصرية. ففي فيلمها"شيشخان"ما يبدو للمؤلف أنه"استعارة مركبة عن النزاع بين سينما ناشئة، وقحة لقيطة، هي السينما التونسية، وأخرى كلية الحضور، مهذار، هي السينما المصرية". يدشن فيلم"شيشخان"ما يعتبره الهادي خليل حدثاً استثنائياً لا مثيل له في السينما العربية،"ألا وهو تصوير مؤخرة ممثل مصري عارية كلياً". ويتساءل المؤلف:"هل تعبر هذه الحركة عن رغبة سينما تونسية، وقحة مارقة، في الإطاحة بسينما هرمة محنطة؟". بيد أنه يوضح أن هذا الانتهاك الفاضح لم يتحقق سوى بفضل حرفية الممثل المصري جميل راتب وثقافته وسخائه، الذي وافق أن يقوم بهذا الدور المعقد. ويقول كان المهم بالنسبة إلى الجعايبي وبن محمود، في المقام الأول، تخليص هذا الممثل، المتيم بباريس والمتزوج بفرنسية، من الكليشيهات والعادات الرتيبة التي سجنت فيها موهبته. ويذكر المؤلف أن المغرب أثر في السينما العربية،"ودفعها إلى التفكير في كيانها وماهيتها وفي طرق قصها للروايات وتصور الشخصيات وتوليد المخيال، بفضل جرأة بعض السينمائيين وروحهم الخلاقة، وإصرارهم العنيد على إنجاز أعمال خارج المسالك المعبدة والمناويل المستقرة". ولئن شهدت السينما التونسية فترات صعود وازدهار، فإنها عادت لتتراجع عما كانت عليه. ويعزو المؤلف هذا التراجع، ليس فقط إلى زوال الهياكل الحكومية التي كانت تتحمل عبء مصير الصناعة السينمائية، إنما إلى أرباب الصناعة نفسها،"إذ يتحملون قسطاً من المسؤولية في التراجع، وفي مقدمهم السينمائيون أنفسهم". ويرى أن المعوقات التي تشكو منها السينما التونسية، على امتداد السنوات الأخيرة،"تتعلق أساساً بقدرات المخرجين الذاتية وبتكوينهم وثقافتهم ومخيالهم". وإذا كانت السينما الروائية تعيش اليوم تراجعاً عما عاشته في الفترات السابقة من ازدهار، فإن السينما الوثائقية، في المقابل، تشهد طفرة كبيرة،"هي من دون منازع، مفخرة تونس السينمائية، وسبيلها الأمثل لتحقيق مصالحة مع الجمهور... إذا ارتبكت مسيرة السينما الروائية وتبعثرت موازينها، لا بد من بديل آخر هو الأفلام الوثائقية". فهذا الجنس السينمائي، أي الوثائقي، ليس نقيضاً ولا تعويضاً للفن بما هو تخييل،"إنه نبع للصورة، للإبداع، للرؤيا. منجم خصب للحكايات والأساطير والخرافات واللقيات العجيبة، رمز حي للعلاقة المربكة بين الواقع والخيال".