في رواية"سنوات الحب والخطيئة"للكاتب السعودي مقبول العلوي المؤسسة العربية للدراسات والنشر-2011 يتبادر الى ذهن القارئ أنّ الرواية رواية زمن، وهذا ما يحيلنا اليه عنوان الرواية، لما يحمله من إشارات زمنية واضحة المعالم. ولكن من يتمعّن في القراءة يرَ أنّ الرواية رواية مكان أكثر مما هي رواية زمن، إذ إنّ الزمن لم يأتِ غايةً بقدر ما جاء وسيلة، فاستوطن المكان وساهم في إضاءته وتعويمه على السطح وعلى خشبة مسرح الأحداث عموماً. فالرواية هي حكاية جزيرة أم الدوم التي تختزل برمزيتها العالمَ العربيَّ عموماً. جزيرة تجترّ أيّامها من دون أيّ تغيير وكأنّ طبائع ناسها متحجّرة على ما هو مألوف ومتوارث. يهجرها البطل/الراوي عشرين عاماً على اثر علاقة حب مع رحمة ابنة أحد زعماء الجزيرة وأسيادها، وبعد أن تحمل منه، يجهضها والدها، ليتزوّجها أبو حسّان والد الراوي، فينصبّ غضب الابن عليه من دون الاعلان عن ذلك، فيكون الحدث سبباً في موت الأمّ ومغادرة حسان. ثمّ يعود اليها ليجد أصحاب الأسماء القديمة قد ماتوا، لكن المكان لم يتغيّر، والأجيال لمّا تزلْ صورة طبق الأصل عن الأسلاف:"عندما عدت بعد ذلك النزوح المرير وجدت نفسي وكأنني لم أغب سوى عشرين يوماً"ص11. يسلّط الكاتب ضوءاً على المكان، ناقلاً أبرز تفاصيله وجزئياته، فإذا به بؤرة بعيدة كلّ البعد من أسس الحياة الحديثة. مكان لا يزال قاطنوه مشدودين إلى أزمنة غابرة، تغلّف عقولَهم عاداتٌ بالية وتقاليدُ وأعرافٌ ترميهم في بئر تفيض جهلاً وتخلّفاً وانعزالاً وارتداداً نحو الخلف، فتنسحق أحلامهم وتنسحق معها قلوبَ الأجيال التي لا تألو على شيء:"هنا في جزيرة ام الدوم تموت الأحلام والنساء على قارعة الطريق بابتذال، وقد علا رؤوس رجالها الصدأ وأفئدتهم أصابها الخواء والجحود"ص35. فهو مكان تجتاح نفوسَ أهله الأحقادُ والحروبُ، ويهجره الفرح ولا يزوره إلا أوقاتاً قليلة:"فرح حلّ ضيفاً في مكان قاحل أصبح منذ فترة لا يجود إلا بالفتن والخصومات والأحقاد"ص36. هذه الحالة المزرية للمكان انعكست على بشره حالاتٍ نفسيةً مدمرة، دفعت شبابه المتمثّل بالراوي إلى الهجرة بعيداً من حمامات الدم، وتسلّط حكام توارثوا أصول حكمهم من أساليب أسلافهم التاريخية، ما جعل الجيل الجديد يشعر بالدونية ويتحوّل الى مريض نفسي تتناهشه المازوشية. يعترف الراوي/البطل بأنه صار شيئاً زائداً في هذه الحياة، لا يستحقّ حباً وعلاقات مع الآخرين، وهذه هي المازوشية ورديفتها الدونية بعينها، فيقول:"كثيراً ما كنت أعترف بيني وبين نفسي أنني شخص لا أجيد تكوين الصداقات والعلاقات، وإذا نجحت مرة في تكوين علاقة ما فإنها سرعان ما تذبل كوردة ألقيت تحت شمس حارقة"ص76. وهذه الحالة أو المرض النفسي، انتقلت عدواه الى المكان أومن المكان عموماً، كأن يقول الراوي ومن خلفه الكاتب مؤكّدين ذلك:"هذا المكان لا يحتمل الحب بالفعل. الحب أمر طارئ له. غريب عنه". ص136. الأنا والآخر تعالج الرواية قضية الأنا والآخر من منظور صاحبها، فيرى الراوي أو الكاتب، أن الآخر ليس العدو الخارجي، بل يكمن في تسلّط المجتمع الذكوري التقليدي متمثلاً بالأب، سواء أكان والد الحبيبة/الزعيم، أم والده هو، أم زوج أم زوجته الموقتة في الغربة مريم، أم أولاد ساطي أخوة القتيلة فاطمة. فالأول كان الآمر والناهي في علاقة البطل برحمة، وقد شاركه أبو حسان والد الراوي في ذلك عبر قبوله الزواج من رحمة بعد اجهاضها بطريقة سرية، في حين أن الثالث كان سبباً في انحراف مريم وممارستها الجنس على طريقة المثليات. أما أولاد ساطي فيؤكدون بقتل أختهم أن العادات القديمة ما زالت تعشش في تلافيف دماغ الناس:"كانت وما زالت الاحقاد هنا على ارض الجزيرة تتوارث وتنتقل من الأسلاف إلى الأولاد والأحفاد". ص118 ولكن ما ينبغي التوقّف عنده، هو أن حكم الراوي على والده فيه شيء من التجني على رغم ما قام به الوالد من ظلم وتعسّف وقهر بحق ابنه وزوجته الأولى. بيد أنّ من يرقب الأحداث بتمهّل، يرى عبر اشارات سريعة، أن أبا حسان قد تحمّل أعباء ابنه وأخطاءه، وتزوّج من عشيقته خوفاً عليه وحماية له. وما ظلمه لابنه سوى رد فعل على ما أوصله اليه هذا الأخير، والدليل أنه طلّقها بعد مغادرة الابن بشهر، وكأن والد رحمة قد اشترط عليه، الزواج أو رأس ابنه في الخلوة التي خرج منها الوالد معلنا زواجه المشبوه. فغالياً ما كان يردد بعض العبارات التي تشير الى أنه انقذ ابنه، وكأن الراوي/الابن هنا لا يعرف بذلك، أو يريد من المتلقي كشف ذلك بنفسه ليحظى بلذة الاكتشاف. فيقول على لسان أحد أصدقاء والده، نقلاً عن هذا الأخير:"كنت أريد أن يبتعد حسان عن النار، التي كانت ستحرقه". ص104. وكان قال له قبل المغادرة:"إلى متى سأظل أحمل أخطاءك الفادحة". ص54. يمسك زمامَ السردِ الراوي/البطل الأساس، فيعرض ما يتعلق به وما يعرفه عن الآخرين، ويشاركه في ذلك، وبطريقة منطقية وتقنية، صوتان سرديان آخران، وهما خضير السكران الذي يخبره ما حلّ بالجزيرة في أثناء غيابه، خصوصاً ما يتعلّق بموت والده وموت رحمة ووالدها، فيكشف اموراً يصعب على الراوي الحصول عليها أو الحديث عنها. وتتكفّل مريم بسرد وقائع خاصة بها. وهذا السرد القائم على الراوي المشارك والأصوات الداخلية، أوقع الكاتب في منزلق السرد والحكي، إذ يخبرنا الراوي ما حصل بين مريم وزوج امها من تحرّش من دون أن يذكر الوسائط التي استقى منها معلوماته. وإزاء هذا الوضع المتدهور، وتوارث العادات والتقاليد البالية، يرى الراوي حين عودته، أن هذا الواقع ذا الوعي القائم والفعلي، لا يتم الخلاص منه والقضاء عليه للانتقال الى الوعي الممكن، إلا بتدمير رموزه، وتقويض أسسه. وهذا أول ما يفعله حين تطأ قدمه أرض الجزيرة النائية بنواميسها وأعرافها عن سمات الحضارة والمدنية الحديثة. وحين لم يجد من بشر الماضي أحداً، يعتقد أن الجزيرة تغيرت بزوالهم، فيذهب الى نخلة عريقة، ضاربة جذورها في أعماق الأرض، ويدب فيها النار لعلّها تطهّر الجيل الجديد من دنس السالفين، ولعلّها تذوّب بنيرانها أدران الهزيمة التي يكرر ذكرها في غير مناسبة. لكن هذه لم تكن النهاية، فها هي الجزيرة تغرق من جديد بدماء قتلاها بحجة غسل العار، فما زالت الدماء تتدفّق لأسباب لا تدل إلا على التخلّف والتقوقع في بوتقة الماضي.