إيران مثل نمر جائع أمامه خياران: وجبة في متناوله ستشبعه لأسبوع، ووجبة ليست في متناوله، يحتاج لأن يجري خلفها لكنها ستسد رمقه لعام كامل... ويبدو أن إيران اختارت الوجبة التي في متناولها، لأن كبرياءها يمعنها من ملاحقة الأهداف الأصعب على رغم الأكلاف الهائلة لذلك". هكذا يلخص مسؤول إيراني سابق حالَ السياسة الخارجية الإيرانية، في وقت بدأ سياسيون حاليون وسابقون ومواطنون عاديون إعادة طرح سؤال قديم قِدمَ الجمهورية الإسلامية وهو: هل تبنى السياسة الخارجية لإيران على أسس المصلحة القومية أم على أسس أيديولوجية؟ تطورات الأزمة السورية أعادت هذا السؤال إلى الواجهة، وليس في ذلك مفاجأة. المفاجأة كانت في التوجهات النقدية من داخل إيران للسياسة الخارجية للبلاد. وعلى عكس التصريحات العلنية حول"ذكاء"و"بعد نظر"السياسة الخارجية الإيرانية، فإن هناك ملاحظات داخلية قوية وإن لم تكن دائماً معلنة، خصوصاً من التيار الواقعي والبراغماتي في السلطة حول"محدودية"و"حذر"و"بطء"سياسة إيران الخارجية. ويقول بعض هؤلاء المنتقدين إن"إيران حققت مكاسب لا شك فيها عبر سياساتها الخارجية، خصوصاً إذا أخذنا في الاعتبار العقوبات الاقتصادية والحصار الديبلوماسي، إلا أن طهران كان يمكن أن تحقق أكثر". سورية وتركيا تحضران فوراً في النقاش الإيراني حول السياسة الخارجية. أولاً الأزمة السورية أزمة إيرانية أيضاً. فإيران طوال ثلاثة عقود استثمرت ملايين الدولارات في بناء هذه العلاقة وفي باقي العلاقات الموصولة بها مثل حزب الله والفصائل الفلسطينية في دمشق. وبالتالي تجد إيران نفسها معرضة لخسارة أهم حليف عربي لها. ومن دون تفكير طويل، تدرك طهران أن عليها دعم هذا الحليف بأي شكل. لكنها في المقابل تدرك أيضاً أن النظام السوري إذا استطاع النجاة، من دون شرعية سياسية من وجهة نظر شعبه والكثير من دول المنطقة والعالم، فإنه سيكون"عبئاً"على إيران أكثر منه مصدر قوة. وهذه مشكلة يدركها سياسيون إيرانيون بدءاً من وزارة الخارجية وصولاً إلى مكتب المرشد الأعلى آية الله علي خامنئي، لأن حمل طهران عبء النظام السوري محاصراً وضعيفاً وبشرعية محل تساؤل سيفقدها حلفاء ربما أهم بكثير من سورية ومن الحلقات الموصولة بها، وإن لم يدُرْ هؤلاء الحلفاء في"الفلك الأيديولوجي"لطهران. وأهم هذه القوى التي يمكن خسارتها هي تركيا. الخارجية قبل نجاد فأنقرة"مفتاح"إيران لتطبيع العلاقات الصعبة مع أميركا وأوروبا. أنقرة تريد لعب هذا الدور واتخذت خطوات حياله، والإيرانيون يحتاجون تركيا أكثر بكثير مما يظهرون، فالعقوبات والحصار السياسي والديبلوماسي، لم يعد ممكناً تبريرها فقط ب"استهداف"الغرب الجمهوريةَ الإيرانية مع أن في هذا جانباً من الحقيقة. ويقول السياسي الإيراني في هذا الصدد ل"الحياة":"إيران متأخرة عشرين عاماً في تطوير سياساتها الخارجية بما يتناسب مع تطورات بنية النظام الدولي. سقط الاتحاد السوفياتي منذ أكثر من 20 عاماً ولم تتطور السياسة الخارجية في شكل كافٍ لتتلاءم مع المتغيرات التي نتجت عن هذا. كان يمكن أن نتصرف في شكل أفضل". وهذا حقيقي، فعلاقات إيران مع العالم الخارجي حالياً"محاصرة"وأقل كثيراً مما كانت تطمح إليه طهران بمعايير آية الله خامنئي والرئيسين السابقين هاشمي رفسنجاني ومحمد خاتمي. حتى الآن لم تنجح طهران في إجراء نقلة في علاقاتها مع القوى المؤثرة في العالم، وهي تستعيض عن ذلك باستثمار الجهد والوقت والمال في تحسين"علاقات مفيدة"مع أميركا الجنوبية وأفريقيا، لكنها ليست"علاقات استراتيجية"بالضرورة ولن تنقل إيران من"حالة الحصار"إلى"حالة الاندماج الحيوي"مع العالم بما يتناسب مع حجمها. الإيرانيون العاديون يشعرون بالحصار الديبلوماسي الذي يكابده بلدهم، وهو ينعكس على الوضع الاقتصادي ويحاصر"كبرياءهم القومي". وخلال اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة نشر موقع"عصر إيران"تعليقات من بعض القراء على لقاء الرئيس محمود أحمدي نجاد مع رئيس وزراء جزر القمر على هامش هذه الاجتماعات، وأحد التعليقات يقول"العزيز أحمدي نجاد أصبح كريستوفر كولومبوس"، وآخر يقول"هل بالإمكان أن تكتبوا أكثر حول جزر القمر حتى يمكن تحديد موقعها على الخريطة"، و"إيران وجزر القمر قوتان كبيرتان... التحالف مع جزر القمر يمكن أن يغير طبيعة التوازن الدولي لمصلحة إيران". وتعليقاً على لقاء أحمدي نجاد مع رئيس جزيرة سانت فنسنت وتعهده بدفع 7 ملايين دولار كمساعدات لبناء مطار وتقديم منح دراسية للطلاب في هذه الجزيرة الكاريبية، قال أحد القراء معلقاً"كنت دائماً متفوقاً في الجغرافيا إلا أنني لم أسمع أبداً اسم هذه الدولة"، وآخر يقول"أفكر في الهجرة إلى هذا البلد، على الأقل حتى أستمتع بأموال نفط بلدي هناك"و"لا بد أن أحمدي نجاد هو من أمر باختراع الميكروسكوب حتى يستطيعوا أن يعثروا على هذه البلاد". وبالتالي لم يكن غريباً أن توجه أسئلة إلى أحمدي نجاد عن لقاءاته المتوسطة المستوى في نيويورك فردّ قائلاً:"في السياسة الخارجية للجمهورية الإسلامية الإيرانية، كبر أو صغر الدول لا يعتبر ميزة". لكن هذا الرد لا يعكس حقيقة سياسة إيران الخارجية. فبعد وفاة الخميني الذي كان مدافعاً قوياً عن فكرة"تصدير الثورة"والتي على أساسها بنيت العلاقات الخاصة جداً مع سورية وحزب الله، جاء خامنئي كمرشد أعلى ورفسنجاني كرئيس للجمهورية وأعطيا الأولوية لتحسين علاقات إيران مع دول الخليج وأوروبا وحتى أميركا. وخلال سنوات التسعينات تراجع شعار تصدير الثورة وحلت مكانه شعارات"الحوار النقدي"مع أوروبا، والانخراط مع الخليج، وتوسيع العلاقات مع بلدان وسط آسيا وأوروبا الشرقية. وخلال الغزو العراقي الكويت لم تعارض إيران الحرب على صدام حسين وأيدت دول الخليج وأميركا خلال"عاصفة الصحراء"لتحرير الكويت. ومن المفارقات أن سياسة إيران الخارجية آنذاك كانت تتلاقى في تحركاتها وأهدافها مع سياسات الشاه الخارجية في الستينات والسبعينات، كلاهما"سياسة واقعية"تتحرك في المجال الحيوي لإيران من دون تردد أو اعتبارات أيديولوجية مسبقة. رفسنجاني على سبيل المثال اقترح في تشرين الثاني نوفمبر 1991 سوقاً إقليمية اقتصادية وتقنية مشتركة بين دول الخليج وإيران يمكن أن تتطور لاحقاً لاتفاق تعاون أمني، وهى فكرة كان طرحها الشاه في الستينات. وكان السياسيون الإيرانيون متحمسين لهذه الفكرة، ليس فقط رفسنجاني وعلي أكبر ولايتي وزير خارجيته آنذاك وعلي لاريجاني، بل وخامنئي نفسه. الاحتواء المزدوج لكن علاقات طهران الإقليمية تعقدت مع اعتماد أميركا سياسة الاحتواء المزودج عام 1993 ضد إيران والعراق لحصارهما اقتصادياً وعسكرياً وسياسياً، ثم قانون داماتو لمنع الاستثمارات الأجنبية في إيران. وتدريجاً، خسرت إيران ما استثمرته"عربياً"لأسباب متداخلة، وبدأ ما يطلق عليه البعض"تجميد تعريب"سياسة طهران الخارجية، إذ كثفت طهران حضورها في الهند والصين وباكستان ودول بحر قزوين وتركيا بهدف منع أميركا من ملء الفراغ بعد سقوط الاتحاد السوفياتي والتضييق على طهران في وسط وجنوب غربي آسيا كما ضيقت عليها في الشرق الأوسط. لعبت إيران"الورقة الروسية"بكفاءة وبراغماتية. فهل تتصرف وفق ذلك اليوم مع الانتفاضة السورية"؟، فالأزمة في دمشق لا تضع إيران أمام تناقض بين سياساتها الخارجية وبين شعاراتها فحسب، بل تضعها في تقاطع مع تركيا. يقول جوناثان ليفاك مسؤول برنامج السياسة الخارجية في"المؤسسة التركية للدراسات الاقتصادية والاجتماعية"في أنقرة ل?"الحياة"إن"المقربين من الحكومة التركية يعتقدون أن أيام النظام السوري باتت معدودة. من الواضح أن موقف إيران حيال سورية مختلف تماماً. فإيران استثمرت كثيراً في نظام الأسد وسيكون إخفاقاً كبيراً لها إذا سقط... ومع أنني لا أعتقد أن الأزمة السورية ستؤدي إلى مواجهة مفتوحة بين تركياوإيران، إلا أنها ستكون عاملاً في إحداث شرخ في علاقات البلدين". وتقول مصادر إيرانية إن مسؤولين إيرانيين بدأوا طرح أسئلة حول أكلاف خسارة سورية ومقارنتها بخسارة تركيا، فثلاثون عاماً من الاستثمار في سورية احتاجت جهداً طويلاً وأكلافاً مادية وسياسية، لكن تركيا أيضا مهمة. فعلى رغم التنافس الإقليمي، إلا أن أنقرة ربما تعتبر"مستقبل"السياسة الخارجية الإيرانية، استثماراً لا يزال في بدايته ينبغي الحفاظ عليه، بينما سورية تشكل"ماضي"السياسة الخارجية وهي وإن كانت استثماراً مهماً إلا أن التحولات الإقليمية تحتم"رؤية إيرانية أوسع". في ظل محدودية علاقاتها الخارجية، لن تجازف إيران فوراً بترك النظام السوري ل"مصيره"، غير أنها تدرك أن الدفاع عن دمشق ودعمها مادياً وسياسياً في شكل علني سيؤثر في علاقاتها مع كل الدول التي تدعم حق الشعب السوري في اختيار نوع نظامه. كما تنظر إيران إلى احتمال نشوب حرب أهلية في سورية. ومن الصعب حساب كيف يمكن أن تستفيد أي دولة من نشوب حرب أهلية في سورية، لكن بعض الأتراك يتخوف من أن الفوضى في سورية ستفيد إيران أكثر، أو على الأقل لن تؤذيها إذ إنها"تتأقلم مع المشاكل والفوضى"أكثر من تركيا. ويقول عثمان بهادير دنسير، الباحث في مركز الدراسات الشرق الأوسطية والأفريقية في أنقرة، والمقرب من الخارجية التركية، ل?"الحياة":"أي تدخل عسكري في سورية سيؤدي إلى حرب أهلية وبالتالي إلى عدم استقرار... إيران ستكون الطرف الذي سيستفيد. إذا اشتعلت حرب أهلية في سورية فإن جنوبتركيا سيكون في حالة شبه حرب". ويضيف:"الأزمة السورية حرجة جداً بالنسبة للأتراك والإيرانيين على حد سواء. إيران لن تقبل أبداً خسارة الحليف السوري وستقدم أي نوع من الدعم، وتطورات سورية ستؤثر في العلاقات التركية ? الإيرانية. على المدى القصير، إيران ستستفيد أكثر فهي أكثر قدرة على الاستثمار في مناطق النزاع. أما تركيا فلم تعتد عدم الاستقرار كأحد عناصر سياساتها الخارجية. هذا على المدى القصير، لكن في المدى المتوسط والطويل، أعتقد أن أنقرة ستكون الطرف الأكثر استفادة، لأن الشعب السوري عندما ينتصر فإن العلاقات السورية - التركية ستكون أفضل من ذي قبل، فيما ستهتز العلاقات بين سورية وإيران". دمشق أم انقرة؟ وتدرك إيران هذا، كما تدرك أن مع استمرار الأزمة السورية واحتمالات تصاعدها فإن خياراتها ستكون محاصرة بين الحفاظ على علاقاتها الاستراتيجية مع دمشق والمخاطرة بتعرضها لضغوط متزايدة وخسارة حلفاء حاليين ومحتملين، أو المخاطرة بسياسة أكثر براغماتية تقوم على"الحد الأدنى من الارتباط"مع دمشق. ويقول السياسي إلايراني السابق في هذا الصدد"سورية كانت دائماً ورقة مهمة لإيران. الآن أصبح الوضع مختلفاً. أصبحت مصدراً للانتقاد. المسؤلون الإيرانيون لن يقولوا هذا، لكن بعضهم يفكر فيه". سورية الحالية وإيران الحالية تصنعان تحالفاً ربما سيتجاوزه الزمن بعد سنوات قليلة، فالشرق الأوسط يمر بتحولات كبيرة، قد تساعد إيران على توسيع دائرة حلفائها وأصدقائها في المنطقة والعالم. وهو ما كانت تطمح إليه دائماً وأعيق لأسباب داخلية وخارجية. "حاصرت"إيران نفسها، طواعية أحياناً ومرغمة أحياناً أخرى، عندما اعتمدت على هذه العلاقات التي باتت الآن عبئاً. وسواء صمد النظام السوري لبعض الوقت أو تغير، فإن إيران ستخسر. وستخسر أكثر لو استمر النظام السوري لسنوات عدة أخرى، ذاك أن عزلة دمشق المتزايدة ستلاحق طهران وتعزلها في شكل إضافي، في وقت تتمدد تركيا إلى مناطق كانت طهران تطمح في أن تصنع لها فيها أصدقاء.