في تاريخنا العربي الإسلامي أن كتب حجة الإسلام أبي حامد الغزالي أُحرقت على يد علماء مسلمين... كما أحرقت كتب شيخ الإسلام ابن تيمية. الأول أشعري شافعي ينحو نحو التصوّف والثاني حنبلي ينحو نحو السلفية... وإحراق كتبهما جرى بتهمة"الابتداع المخالف للسنة". وقد تراشق القوم بالأحاديث الموضوعة على لسان الرسول فنقل بعضهم أنه قال"سيكون في أمتي رجل يقال له أبو حنيفة هو سراج أمتي"... وروى آخرون عن الرسول أنه قال"عالم قريش يملأ طباق الأرض علماً"وحملوه على الشافعي... فردّ عليهم الأحناف بحديث يقول"سيكون في أمتي رجل يُقال له محمد بن إدريس هو أضرّ على أمتي من إبليس"الشافعي هو محمد بن إدريس... وروى المالكية أن أبا حنيفة هو"شر مولود وُلد في الإسلام... وأنه لو خرج على هذه الأمة بالسيف لكان أهون"... واتهم العلماء ابن تيمية بالكفر... فكتب أحد الحنابلة أبو بكر تقي الدين بن أحمد الحصني الدمشقي في إفتاء أهل المذاهب الأربعة بكفر ابن تيمية... وكتب الحافظ بن حجر في الفتاوى"ابن تيمية عبد خذله الله وأضله وأعماه وأصمه وأذله... بذلك صرّح الأئمة الذين بيّنوا فساد أحواله وكذب أقواله، ومن أراد ذلك فعليه مطالعة كلام الإمام المجتهد المتفق على إمامته وجلالته وبلوغه مرتبة الاجتهاد: أبي الحسن السبكي وابنه التاج، والشيخ الإمام العز بن جماعة، وأهل عصرهم وغيرهم من الشافعية والمالكية"... وفي الدر الكافية لابن حجر العسقلاني أنه نودي في دمشق"من اعتقد عقيدة ابن تيمية حلّ دمه"... وفي رسالة الذهبي إلى ابن تيمية ما لا يقل سوءاً عن ذلك. وابن تيمية هذا هو الذي تستخدم فتاواه لتكفير الشيعة والدروز والعلويين وحتى الأشاعرة والمعتزلة والأحناف والشافعية من المسلمين السنّة... ولعل أهم عوامل الصراع وسوء التفاهم بين أتباع المذاهب الإسلامية هو الجهل المتبادل وعدم الانفتاح الفكري فيما بينهم حتى على مستوى العلماء والقيادات، حيث يحتفظ كل طرف لنفسه بانطباع وموقف سلبي تجاه الطرف الآخر، من دون أن يكلف نفسه عناء البحث والتأكد من صحة انطباعه وموقفه وكأنه ليس مسؤولاً أمام الله عن سوء ظنه بالآخرين وخطأ حكمه عليهم، أو غير مدرك لما ينتجه هذا الموقف الجاهلي من أخطار وتبعات على وحدة الأمة وتماسك صفوفها. ويبدو أن هناك إشكالاً عميقاً يكمن في مناهج الدراسة في الحوزات والجامعات والمعاهد الدينية، حيث تقتصر كل مؤسسة على تدريس اتجاه معين في العقائد والفقه والعلوم الدينية متجاهلة سائر الاتجاهات والمذاهب، والأخطر من ذلك هو تعبئة الطلاب في كل معهد ديني ضد ما يخالف مذهبه ومنهجه عبر أسلوب التهريج والإسقاط والدعاية السوداء، فيتخرج طلاب العلوم الدينية بفكر منغلق وعقلية ضيقة جاهلين بالرأي الآخر منحازين بتعصب ضده. ولقد حدثنا التاريخ أن الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده رأى - قبل أخذه شهادة التدريس - أن يطالع مع بعض الطلاب كتباً منها شرح العقائد النسفية للتفتازاني مع حواشيه، وسوغ لنفسه في أثناء ذلك أن يرجح مذهب المعتزلة في بعض المسائل الكلامية، على مذهب الأشعرية، فقامت لذلك ضجة كبرى في الأزهر ووصل الأمر إلى المرحوم الشيخ عليش الكبير، وكان رجلاً حاد المزاج، سريع الغضب، شديد الغيرة على ما يعتقد، فهاج وماج، وأرسل إلى الشيخ محمد عبده، وكلمه في ذلك كلاماً شديداً، وتعصب للشيخ عليش في ذلك طلاب من الأزهر وعلماء، حتى كان الشيخ عبده يضطر إلى اصطحاب عصا معه وهو يقرأ الدرس خوفاً على نفسه من اعتداء ذوي العصبية والأهواء. أسوق هذا الكلام لا لنبش تاريخ أسود أو إيقاظ فتنة نائمة، بل للإشارة إلى أن التكفير والتخوين غالباً ما يصيب كل الناس لا يُفرق بين سلفي وأشعري أو بين متصوف وشيعي أو بين معتزلي وحنبلي ناهيك عن العقلاني الرشدي أو العلماني الحديث... فهذا الداء أصاب المسلمين منذ كانوا واستمر متصاعداً عبر العصور حتى كتب الإمام الشيخ محمد عبده في أواخر القرن التاسع عشر مقالته الشهيرة بعنوان"متى ولع المسلمون بالتكفير والتفسيق"والتي قال فيها"إن أصلاً ثابتاً من أصول الإسلام هو البُعد عن التكفير، هلَّا ذهبت إلى ما اشتُهر بين المسلمين وعُرف من قواعد أحكام دينهم وهو: إذا صدر قولٌ من قائلٍ يحتمل الكفر من مائة وجه ويحتمل الإيمان من وجه واحد، حُمِلَ على الإيمان، ولا يجوز حمله على الكفر! فهل رأيتَ تسامحاً مع أقوال الفلاسفة والحكماء أوسع من هذا؟ وهل يليق بالحكيم أن يكون من الحمق بحيث يقول قولاً لا يحتمل الإيمان من وجه واحد من مائة وجه؟! إذن لم يَدَعِ الإسلام لأحد، بعد الله ورسوله، سلطاناً على عقيدة أحد ولا سيطرةً على إيمانه، على أن الرسول كان مبلِّغاً ومذكِّراً لا مهيمناً ولا مسيطراً. قال الله تعالى:"فذكِّرْ، إنما أنت مذكِّرٌ، لستَ عليهم بمسيطر"، ولم يجعل لأحد من أهله لأن يحلَّ ولا أن يربط في الأرض ولا في السماء، بل الإيمان يعتق المؤمن من كل رقيب عليه في ما بينه وبين الله سوى الله وحده، ويرفع عنه كل رقٍّ إلا العبودية لله وحده. وليس المسلم، مهما علا كعبه في الإسلام، على آخر، مهما انّحطَّت منزلته فيه، إلا حقّ النَّصيحة والإرشاد. قال تعالى:"ولتكنْ منكم أُمَّةٌ يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون". وتلك الأمة ليس لها عليهم إلا الدعوة والتذكير والإنذار والتحذير، ولا يجوز لها ولا لأحد من الناس أن يتتبَّع عورة أحد، ولا يسوِّغ لقوي ولا لضعيف أن يتجسّس على عقيدة أحد"...انتهى كلام محمد عبده. فإذا كان ما كتبه محمد عبده عن أسلافنا من أهل الإسلام وعن مسلمي القرن التاسع عشر حول ولوعهم بالتكفير مدعاة للنظر وهو يحكي عن مجتمع ديني تقليدي يواجه تحديات الدخول في العصر، فكيف بنا اليوم وقد دخلنا الألفية الثالثة للميلاد والثلث الثاني من القرن الخامس عشر للهجرة؟ فهل كان الحزبيون الثوريون، علمانيين ودينيين، في اليسار واليمين، من أبناء القرن العشرين، بأحسن حالاً من أسلافهم؟ في تاريخنا المعاصر أن شباب"الإخوان المسلمين"في مصر اغتالوا رئيس الوزراء النقراشي باشا بعنوان أنه عميل بريطاني، كما اغتالوا غيره قبله وبعده حتى ضج منهم مؤسس الإخوان وزعيمهم الشهيد حسن البنا فصرخ صرخته المشهورة:"ليسوا إخواناً وليسوا مسلمين". وأن النظام الملكي المصري اغتال حسن البنا بشعار أنه عميل بريطاني - ماسوني... ولم يكف الاغتيال الجسدي حتى تواترت الروايات الشعبية عن أن البنا شوهد يخرج من مبنى السفارة البريطانية وهو يحمل"شنطة فلوس". ونسبت روايات أخرى المشهد نفسه إلى تقي الدين النبهاني مؤسس حزب التحرير وذكرت أنه قال"عرضنا عليهم الإسلام فلما أبوا أجبرناهم على دفع الجزية". ثم جاء النظام الناصري فاغتال سيد قطب بعنوان أنه عميل أميركي - صهيوني، وزج بعشرات الألوف من الإخوان ومن الشيوعيين في السجون وسامهم ألوان التعذيب بشعار أنهم خونة للوطن وللثورة، وهرب الإخوان إلى الخليج واليساريون إلى بيروت، وشنوا معاً حملة شعواء ضد النظام الناصري يتهمونه فيها بأنه أميركي - صهيوني، وكانت حرب اليمن بين مصر والسعودية آية على التخوين والتكفير المتبادلين. وفي لبنان سقط الصحافي القدير والكاتب الحصيف كامل مروة برصاص ناصري يتهمه بالعمالة والخيانة، وقبله سقط زميله ورفيق دربه نسيب المتني برصاص آخر لم يوفره من تهم العمالة. وقام النظام اللبناني بإعدام أنطون سعادة بتهمة رسمية في المحكمة بأنه عميل بريطاني وصهيوني، ولم تكن تعوز التهمة أدلة ووثائق قدمها الادعاء. واغتال القوميون السوريون الرئيس رياض الصلح والضابط عدنان المالكي بشعار أنهما عميلان للصهاينة... ثم تحالفوا مع حكم الرئيس شمعون ضد عبدالناصر ومع حلف بغداد ومع الإنكليز نكاية بالقوميين العرب، ثم تآمروا للانقلاب على الرئيس فؤاد شهاب بعنوان أنه صهيوني... وقام الشيوعيون بسحل القوميين العرب والبعثيين في شوارع بغداد والموصل وعلقوا الجثث على أعمدة الكهرباء بشعار أنهم خونة ومتآمرون على الشعب... ثم جاء القوميون العرب والبعثيون إلى الحكم وسحقوا وذبحوا الشيوعيين بعنوان أنهم خونة وعملاء... المشهد"الثوري"نفسه تكرر في سورية ولبنان والسودان وليبيا والجزائر وفي كل مكان من هذا"الوطن العربي الكبير"... وداء التكفير والتخوين هذا لم يترك للفلسطينيين أي مطرح للتفاهم على قضيتهم... فتقاتل القيسية واليمنية طوال القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين في البلاد التي كانت تسقط تباعاً بيد الصهاينة... ثم صار الصراع بين آل الحسيني والنشاشيبي وعبدالهادي والخالدي إلخ... وتشكلت الأحزاب وتقاتلت وكل حزب يتهم الآخرين بالخيانة والعمالة فيما الصهاينة يتوسعون ويتركزون في بلادنا... وهل ننسى أن المفتي الحاج أمين الحسيني عاش متهماً بالعمالة للإنكليز حتى وفاته شريداً فقيراً في بيروت... ثم صار الجميع ينتسبون إليه اليوم؟ وهل ننسى أن أحمد الشقيري مات وهو مثقل بحمل الاتهامات الجائرة السخيفة الغوغائية بعد أن قضى حياته كلها في الذود عن فلسطين... وهل ننسى أن ياسر عرفات قد فاق سجل اتهامه بالخيانة والتآمر وبالصهيونية عشرات ومئات المرات كل من سبقوه ولحقوه حتى مات شهيداً شهيداً بعد معركة بطولية قادها حتى الرمق الأخير... ثم صار الجميع اليوم يبكون عليه وينتسبون إلى"خطه ونهجه"؟ نعم، هكذا ضاعت فلسطين... وهكذا تضيع بلاد العرب وكل الأوطان. أولع العرب والمسلمون بالتكفير والتخوين حتى طار صوابهم وضاعت بوصلتهم واختل ميزان العدل والحق في عقولهم ووجدانهم... وصاروا كقطيع الماعز يركضون وراء كل تيس أخرق لا علم عنده ولا دين ولا تقوى لمجرد اتباع الهوى والعصبية، وبدل التمثل بقول الإمام علي"إعرف الحق تعرف أهله"أو أن الحق به يُعرف الرجال لا العكس، صاروا يلهثون وراء كل ناعق في غربال وكل ديماغوجي شعبوي يقول كذباً ويفتري حقداً وبغضاً وكل صاحب هوى ومصلحة. فكيف والحال هذه تستقيم أحوال"خير أمة أخرجت للناس"؟ * كاتب لبناني