يرى كثر أن اعلان ديمتري مدفيديف عزوفه عن الترشح الى ولاية ثانية، وترشيحه فلاديمير بوتين لشغل منصبه في الكرملين هما مرآة رسوخ الديكتاتورية في روسيا. لكن الاستنتاج هذا ليس في محله. ففي 2008، أوصل بوتين مدفيديف الى الرئاسة الروسية. والدستور يحظر عليه الترشح لولاية ثالثة. لكن مدفيديف انتهج نهجاً مخالفاً لبوتين حتى قبل تسلّمه منصبه. ففي خطاباته الأولى، وصف الأول بلاده بأنها احد فروع الحضارة الأوروبية الثلاثة إلى جانب الاتحاد الاوروبي والولايات المتحدة. وأراد ربط بلاده بالعالم الغربي، والقطع مع أوهام الدور الروسي الاستثنائي قوة أوروبية - آسيوية، وسعى الى سلك روسيا سكة الحداثة الاقتصادية والديموقراطية. وطوال 4 سنوات، واصل هذا الرئيس الشاب الذي بلغ الرشد إثر انهيار الاتحاد السوفياتي، السعي الى الرؤية هذه. وكافح الفساد في فروع السلطة، وعارض الرقابة على الانترنت، ولم يكتف بالتنديد بالتسلط البوليسي والاستبداد، وحاول اصلاح وزارة الداخلية. ولم يسعه اطلاق ميخائيل خودوركوفسكي، الثري صاحب شركة"يوكوس"النفطية. وهذا صودرت أملاكه وسجن جزاء معارضته بوتين، لكن مدفيديف ندد بالحكم عليه. وبادر الى التقارب مع أوروبا وأميركا. وامتنع، أخيراً، عن توسل حق النقض في مجلس الامن مجيزاً حماية الثوار الليبيين عسكرياً. وإثر امتناعه عن نقض القرار 1973 الاممي، انتقده بوتين مندداً بالحملة الصليبية الغربية على ليبيا. لكن الرئيس دافع عن قراره، ولم يتراجع عنه، وشجع صاحب ثالث أكبر ثروة في روسيا، ميخائيل بروخوروف، على قيادة حزب"القضية العادلة". ووسع مدفيديف توسل الحزب هذا أداة لانتخابه. وبدا أن النزاع وشيك في الخريف المقبل بين الرئيس المنتهية ولايته وسلفه الذي يشغل منصب رئاسة الوزراء. لكن ميخائيل بروخوروف أُقصي من رئاسة"القضية العادلة"، وبعد عشرة أيام على أقصائه، أعلن مدفيديف انسحابه من السباق الرئاسي متمنياً على سلفه تولي رئاسة روسيا. أسباب الانسحاب هذا ثانوية قياساً إلى ما يترتب عليها من نتائج. وربما لم يتحل مدفيديف بالشجاعة الكافية لخوض نزاع مع بوتين، أو ربما ابتزّه الأخير بكشف تورطه بعمليات اختلاس أموال. واليوم يسع بوتين أن يحكم روسيا ولايتين متتاليتين، وأن يبقى في الحكم الى 2024 مخيّباً الآمال بإرساء الديموقراطية في روسيا. لكن ارضاء الطبقة المتوسطة الجديدة المدينية والشابة، المنفتحة على الغرب والراغبة في ارساء دولة القانون التي تحمي الافراد والشركات من التعسف، لن يكون يسيراً عليه. * معلق، عن"ليبراسيون"الفرنسية، 28/9/2011، اعداد م. ن.