تعودت أن تزوره كل يوم منذ أن حجزوه في المستشفى. هو أبوها. تسكن معه في حجرة فوق السطوح. وهي تعمل في محل للملابس الجاهزة. ورديتها دائماً في الليل. تعود منها متأخرة. في الصباح حين تصحو مبكراً تجهز له طعامه، يقول إنه عاف أكل المستشفى، تحمله وتذهب لزيارته. داخت لسنوات حتى حصلت له على سرير في المستشفى الحكومي. شخصوا لها حالته: فشل كلوي مع سرطان في المثانة. ليس لهما أهل. هو كل ما تعرف من أقارب. منذ وعت ليس لها غيره. * حين تصل تسحب مقعداً تآكل خشبه ومالت أرجله إلى الوراء وتجلس إلى جانبه. تظل تستعطفه ليأكل: مش قادر يا بنتي. تستحلفه بالغالية: وحياة أمي. يشرد عنها قليلاً وقد ثبتت عيناه. يلتفت إليها دامعاً: الغالية. استحملتني كتير. نفسي أشوفها يا بنتي. تسكت. ويسكت. تنتبه إلى الأصوات الثائرة خارج العنبر. تخرج لترى. تسمع أصواتاً تردد: محاكمة الرئيس على التلفزيون. منه لله ثلاثين سنة أمراض. بس تفتكروا هايحكموه بجد؟ كده تبقى الثورة نجحت. تخفت الأصوات حتى تختفي. تقف شاردة. تلتفت إلى أبيها الراقد على الفراش وعيناه ما زالتا شاردتين ترمشان ببطء. تبتسم له وتقول: هايحاكموا الريس. ويظل هو على صمته شارداً. تقترب منه. تقف إلى جانبه وتعدل له فرشته. تقول: تصدق الكلام ده؟ لم تنتظر رده. وراحت تنظر نحو النافذة. ضوء الشمس يعبر النافذة فيضيء الحجرة. تلمح عصفورين يقفان على سطح المبنى المقابل. ترمقهما للحظة وهما ينقران أرض السطح. تلتفت إليه. ترى عينيه زائغتين. تهزه هزة خفيفة. حين رمش بعينيه ابتسمت. تهرول مندفعة لتبحث عن المجموعة. تعثر عليهم يقفون أمام التلفزيون يسار آخر الممر. تقف معهم. بالكاد ترى الشاشة فتكتفي بالتركيز مع الصوت. حين لمحت الرئيس داخل القفص الحديد ممدداً على السرير بينما يقف ولداه أمامه انتبهت. غمغمت: قادر على كل شيء. وتعود إلى المتابعة في صمت. تذكرت فجأة أباها. هرولت عائدة إلى العنبر. حين وقفت أمامه كان ساكناً لا يتحرك. هزته بعنف: الرئيس جوه قفص. الرئيس جوه قفص. لم ترمش عيناه هذه المرة. ظلتا مفتوحتين متحجرتين مكانيهما. هي في وقفتها لم تتحرك. غير أنها بعد لحظة أغمضت عينيه والتفتت نحو النافذة. ضوء الشمس لا يزال يدخل. خرجت صرختها عالية. انتفض العصفوران وطارا بعيداً.