أنهكها السعال وسحقتها الحرارة. كانت الثلوج تذوب في الخارج والعصافير تزقزق على الأشجار لكنها قبعت في الداخل غارقة في رائحة المرض والأصواف. عَلِقت في حمى مقفلة كقفص لا ترى ماضياً ولا مستقبلاً. استعانت بفناجين النعناع المغلي لعلها تقتل الجرثومة التي فتكت بصدرها. بينما تنحني وتسعل مخلعة الأوصال في فيلادلفيا كان ابن عمها جو خليل حدّاد يُصارع من أجل الهواء في الطبقة الثالثة تحت سطح البحر، في مكانٍ ما من المحيط الأطلسي... عدد لا يُحصى من الجنود يتكومون في بطن الباخرة، باخرة تعقب باخرة، قافلة بواخر تحرسها الفرقاطات وطائرات الاستطلاع والقوارب المدرعة خوفاً من الغواصات الألمانية التي تتسلل الى مياه أميركا جربوا اطلاق توربيدات على مرفأ نيوبورت نيوز - فرجينيا حيث تُصنع بواخر حربية الآن... الجواسيس الألمان في أميركا ? هكذا كتبت احدى الجرايد ? حاولوا تفجير معامل الذخيرة في نيوجرسي مرة أخرى... نجحوا مرة من قبل وعندما انفجر المصنع تحطم الزجاج وراء النهر، كل مانهاتن السفلى تساقطت نوافذها. دوي الانفجارات سبّب ذعراً شاملاً: ظنّ كثر أن الغزو الألماني بدأ!. أشعلوا مصابيح في جوف الباخرة التي تخيف الحيتان. جو حدّاد الخائف مثل الجميع من غواصات الألمان القاتلة دار بين الصفوف والفرشات، يبحث بين عددٍ لا نهائي من الوجوه والأقنعة عن صديقه جيفري ثورنتون. قبل أن يعثر عليه التقى ثلاثة سوريين من ماساتشوستس. 322 سورياً من ماساتشوستس وحدها اشتركوا ضمن صفوف الجيش الأميركي في الحرب العالمية الأولى. أخبروه أنهم يبحثون عن رفاقهم، معظمهم من قرى الكورة السبع، وصلوا الى أميركا قبل سنوات قليلة، ورحلة الأطلسي ما زالت ماثلة في ذاكرتهم: لم ينسوا ضيق الصدر والهواء القليل والشعور أنك في زريبة، خروف بين الخراف، بلا حول ولا قوة. جو حدّاد ضحك وهو يقول لا تقلقوا سنعثر على رفاقكم وأنتم ساعدوني أيضاً ونادوا اسم صاحبي:"جيفري". صاح وأفزعهم وأفزع من حوله لكنهم ضحكوا بالعدوى وصاحوا مرة معه، ثم انتشروا بين الصفوف والفرشات والوجوه يكرّرون الاسم مرة تلو أخرى، كأنهم ينشدون في كورسٍ كنسي:"جيفري!". لن يعثروا عليه. لكنه سيرى صديقه من جديد بعد شهور، ولولا الصدفة لم يتعرف عليه: كان مشوه الوجه الآن، محروق الأذنين والأنف والرقبة. حدث الأمر هكذا: في 28 أيار مايو 1918 خاض الأميركيون معركتهم الأولى الحقيقية على"الجبهة الغربية": أربعة آلاف أميركي من الفرقة الأولى 28th Regiment ?1st Division، الكتيبة ال28 كاملة العدد تقريباً البعض سقط قبل بلوغ Cantigny، تقدمت بحماية 12 دبابة فرنسية ? الدبابات في المقدمة والجنود يسيرون خلفها ? بعد قصفٍ كثيف"متدحرج"اشترك فيه 368 مدفعاً ثقيلاً. هذه التقنية المتطورة في القصف كانت تهدف الى حراثة الأرض أمام المهاجمين ومطاردة المدافعين الذين يحاولون الانسحاب فتتعقبهم القنابل. لم تتمكن تحصينات كانتيغني من الصمود. ونجح الأميركيون في احتلال القرية. لكن المعركة لم تنتهِ عندئذٍ. كانوا يجلسون الى وجبة سريعة في أحد البيوت التي لم تتهدم تماماً عندما بدأ القصف الألماني وانفجرت قنابل. صاحوا Gas وأخرجوا الأقنعة المطاطية ولبسوها. في اللحظة نفسها حطمت رشقة رصاص من مدفع لويس Lewis نمسوي الأكواب على الطاولة. ناجون ألمان ثبتوا المدفع على حافة النافذة وأطلقوا النار الى الداخل. كانوا سيئي الحظ لأنهم لم يلبسوا أقنعة الغاز قبل ذلك: قتلهم الغاز الألماني! جو حدّاد خرج زاحفاً وابتعد قدر ما أمكنه عن الغيمة الصفراء ثم نزع القناع الخانق. كان يلهث، ويرى الأشياء وردية وحمراء أمامه. عندما انتبه أنه يغوص في الماء استولى عليه الذعر لا خوفاً من الماء ولكن من الغاز ذاته: اكتشف خلال الشهور الاضية أن الغاز يتجمع حيث الأجسام المائية: البرك، الأنهار، خزانات مياه الشرب... ارتدى قناعه مرة أخرى وزحف تحت رصاص انهمر من ثلاث جهات دفعة واحدة. سقط في حفرة صنعتها القنابل وبقي في الحفرة. كان المكان ضيقاً بسبب الأشلاء والجثث المتخشبة لكنه بقي جامداً. هذا كله لم يعد صادماً بالنسبة اليه. هل ربى جلد تمساح فوق جلده خلال الشهور الماضية؟ حارب تحت إمرة الانكليز في بيكاردي Picardy عندما بدأ الهجوم الألماني مطلع الربيع. كان في فرقة أخرى عندئذٍ ورأى النار التي تهجم كالبركان وتأكل الخندق كاملاً. فرّوا من الخندق كالأرانب البرية التي تُطرد من أوكارها بالدخان وإحراق القش. الرصاص يحصدهم وهم يفرّون من نافثات اللهب. صارت هذه رعبه وتطارده إذا نام لحظة. نجا ولم يعرف كيف. تعفنت قدماه وهو يغوص في الوحل. لكنه ظل حيّاً. في كانتيغني، بينما يبلع جرعة ماء من مطرة راقداً بين جثثٍ المانية وفرنسية وأميركية، جثث قديمة وجثث أحدث عهداً في أوصالها حرارة، صلّى أن يخرجه الربّ سالماً من هذه"الجورة"، ثم من هذه القرية المدمرة على الهضبة السوداء، ثم من هذه الأرض اللعينة التي تسمى"الجبهة"... صلّى أن يبقى حيّاً. أزاح القناع عن وجهه. ورأى جسماً يقع فوقه. يده بحثت عن الحربة وانتزعتها من حيث هي وغمدتها في الجسم الذي سقط عليه. هذا ألماني، عرفه من زيّه الرمادي وقبعته المسطحة. قلبه جانباً ثم برم الحربة الى هذه الجهة وتلك وأخرجها. متى تدرب على هذا؟ في أميركا البعيدة وهو يهاجم فزّاعة الحقول في معسكر يشبه ألعاب الأولاد؟ كانوا يطعنون دمى القش والمدرب يصيح ليس في الظهر، تحت، في الكلية. ولا تدخلوا النصل كلّه وإلا لن يخرج. ولا تشدوا هكذا بل ابرموا الحديد. اللعين يُقتل والنصل يخرج. لم يتعلم في المعسكر شيئاً. هنا، في الخنادق، بينما الرصاص يرمي الخوذة عن رأسه، تعلّم. هل تعلّم شيئاً؟ تعلّم ما يكفي للبقاء؟ انحسر الرصاص بينما المساء يهبط. سمع نداءات رفاقه. كانوا يبحثون عن بعضهم البعض. أطلّ بعينيه ورأى ثلاثة ظلال وميّز الزي البروسي الأزرق. سدّد بندقيته وقوّص. سقط ظلّ واحد، ذاب في عتمة المساء، ورفيقاه توغلا بين أطلال مظلمة. قسطل البندقية لسع أصابعه وهو ينزل الى مقره من جديد. تفحص الجثث بحثاً عن شيء لا يعرف ماذا يكون. اكتشف جريحاً: كان يئن بلا صوت تقريباً، في زيّه الأخضر والأزرق. هذا بلجيكي. أعطاه ماء كي يشرب وسأله عن اسمه. "جان ? جاك"، قال البلجيكي،"جان ? جاك سيمون". ثم أغمض عينيه. بعد ذلك لم يتحرك. اسمه منقور على النصب التذكاري ? بين 526 اسماً ? في مدخل كانتيغني: نصف هؤلاء قُتلوا في المعركة والنصف الآخر قُتل بالغاز بعد احتلال القرية. -"أنا جو، جو حدّاد"، قال للبلجيكي. لم يعرف أنه ميت إلا بعد وقت. أخرج رأسه من الحفرة ورأى ظلالاً تتجمع، سوداء. بعيداً، في الأفق، تشتعل السماء بالأحمر. القصف لا يتوقف لحظة، المدفعية تدوي، والأفق يلتهب، لكن كانتيغني ? لهذه اللحظة - صامتة. ضرب يده على أذنه اليمنى كي يتوقف الطنين فانتقل هذا الى الأذن الأخرى. كل رأسه يطنّ ولا يعرف من هؤلاء الذي يتجمعون أمام الكاتدرائية المحطمة: صديق أم عدو؟ رجع الى"الجورة"فسمع صوتاً. كان الصوت يتحدث اليه، وخيّل اليه أنه يضحك: - أنا اسمي ناثان، أنا استرالي. اكتشف ان الرجل يمدّ يده ويريد أن يصافحه. مدّ يده وقبض على الأصابع القاتمة. كانت لزجة. ورأى أن الدم يسيل من ذراعه وصدره. في الليل الذي ينتشر كالحبر ويملأ الحفرة سمع الضحكة تتقطع: Water. لم يكن يطلب يده بل مطرة الماء. سقاه. بينما الرجل يسعل ويبصق دماً من رئتيه المصابتين بالغاز تجددت الانفجارات. الألمان تأكدوا أن القرية سقطت وبدأوا القصف؟ أم العكس: الهجوم فشل والآن يقصف"الحلفاء"كانتيغني؟ في الحفرة لم يكن مهتماً بمعرفة الجواب. الاسترالي قال له، عندما لاحظ حركته"Stay". أراد أن يبقى معه. امتلأت رئتاه بالماء وكفّ عن التنفس. جو حدّاد رأى القمر، أصفر، كامل الدائرة. عند حافة الحقول المقصوفة السوداء وقفت شجرة: كانت بيضاء، مزهرة، تشبه لطخة في هذا السواد. اشتعل الأفق مرة أخرى، يلتهب ثم يخبو... كان الدوي فظيعاً ومع هذا سمع نداء من آخر الحفرة. كانت تتصل بحفر أخرى. عندما وقعت قنبلة قريبة تقطعت الأشلاء متطايرة وغطاه التراب. لكنه لم يصب بأذى. تلمّس أعضاءه وعرف أنه حي. من جديد سمع النداء. رجل يسعل، يتغرغر بالدم كأنه يغسل فمه بالماء والملح، وينادي. زحف صوب الصوت. كان هذا أميركياً، مثله، وأخبره أنه من الكتيبة الثامنة والعشرين. جو حدّاد قال أنا أعرفك. والرجل طلب ماء. سقاه ففرغت المطرة. طلب الرجل شوكولا. عثر جو على لوح شوكولا في ثيابه وكسر له قطعة. فتح الرجل فمه وجو ألقى القطعة بين أسنانه. بعد ذلك استند بظهره الى حائط الحفرة. عندما تدفق ضوء القمر فوق الجثث رأى شخصاً آخر يتحرك. كان في اللباس الأزرق. زحف اليه وسدّد المسدس الى رأسه. قبل أن يطلق النار قال الألماني: - !Kamerad. هل كان يستسلم؟ ماذا كان يقول؟ دائماً يسمع هذه الصرخة عندما يجتاحون خندقاً. دخل مرة خندقاً ألمانياً مهجوراً للتو، ورأى مائدة في غرفة محصنة تحت الأرض، بأكواب قهوة وخبز وجبن ولحم وعلبة سيجار من الصنف الفاخر. في زاوية عثر على صندوق فيه تفاح وبرتقال وليمون حامض. نظر الى الفاكهة ولم يصدق. كان آتياً للتو من خندقٍ موحل تطفو عليه الجثث، برائحة الأحصنة المتحللة تسحق دماغه، ورأى الفاكهة والحياة العادية في غرفة تحت الأرض، وبخاراً يرتفع من أكواب القهوة! خرج راكضاً الى النفق يطلق النار مثل أخوت. الألمان تساقطوا رافعين ثياباً داخلية بيضاء. كانوا يهتفون بتلك الصرخة الغامضة"كومراد"ويقعون على جهتي النفق. ناداه صوت. زحف ورأى أميركياً من فرقته. عليه أن يضرب التحية العسكرية: هذا يعلوه رتبة. قبل أن يضرب التحية قال الجريح: - تستطيع أن تحملني؟ Can you carry me. بدا كأنه يسأل عن مقدار قوّته وحسب. مثل ولدين يلعبان في الساحة. جو هزّ رأسه ومدّ ذراعيه وجذب الرجل من كتفيه جذبة قوية. صاح الرجل تلقائياً كأنه ضُرب. كان نصف جسمه ظهره مسحوقاً تاماً، ذائباً وممتزجاً بالمادة السوداء التي تملأ أرض الحفرة. جو تركه وقال انه سيرجع. زحف أبعد فأبعد ثم أطلّ برأسه. داخل الكاتدرائية المحطمة رأى جنوداً يتحلقون حول نار صغيرة. لم يستطع أن يميز لا اللباس ولا الوجوه. كانوا بعيدين، واللون الأحمر الغامض يغزو عينيه من جديد. مسح جبهته وتأكد أنه لا ينزف، مرة أخرى تكاثفت الانفجارات وغطى الدخان وجه القمر. ساد الظلام الحفرة وسكن الأنين. شعر بحركة. التفت ورأى رجلاً محروق الوجه. كان وجهه يسيل وعندما رفع يده رأى أن أصابعه تسيل أيضاً. ثم هوى أرضاً. خرج جو من الحفرة ومشى الى الكاتدرائية ودخل بلا سلاح وألقى التحية. كانوا أميركيين، يبلّون البسكويت العسكري بالماء الفاتر ويُعدّون طعام العشاء. لم يفقد الوعي إلا لحظة. ثم فتح عينيه من جديد ورآهم ينتشرون وراء متاريس أعدها الألمان ثم تركوها. قال يوجد جرحى في الحفرة. قبل أن ينهي اقتراحه انفجرت قذيفة في مدخل الكاتدرائية وحطمت التمثال الأخير الباقي للمسيح. أحدهم أعطاه ليمونة كي يمصّها ويبعد العطش. "الماء تلوّث بالغاز"، قال الصوت وهو يبتعد. كان المكان ضخماً، مثل قصرٍ بُني بأقواس وقناطر وعقود. لا بد أنهم عمّروا هذا الصرح قبل قرون. في أميركا نادراً ما يرى عمارات قديمة الى هذا الحد. لم تعد الإنفجارات تبلغه. كان يبتعد، والأرض الحجرية تتحرك، تسيل كالماء، وهو ينزلق... إنزلق حتى بلغ الخندق حيث تتكلم الجثث مع الجرحى وحيث يطلب الجرحى ماء وشوكولا وحليباً، ويقول الذي يموت"ابقَ معي"ويمدّ أحدهم يده ويطلب المطرة. انزلق أبعد ورأى شجرة الكرز النابتة في قلب الجحيم. وانزلق أبعد ورأى جبلاً أخضر وعصافير وعشاً مملوءاً بالبيض. سمع السقسقة. ثم هوى التراب على عينيه وأنفه. هل يُدفن حياً؟ سمع رصاصاً غزيراً في جوف الكاتدرائية... رجعوا؟ ماذا يحدث؟ أين قوّته؟ فتح عينيه وعثر على بندقيته ألم يأتِ من الخارج بلا سلاح؟ وأطلق النار على الرجل الذي فتح النار على الجميع. هل أصيب بالجنون تحت هذا القصف؟ هل يُطلق النار على رفاقه الآن؟ كانت الحرارة تسحقه وعندما عرف بعد دهر أنه يُحمل على محفة أدرك أنه لن يموت. في المستشفى الميداني ? غرف عميقة تحت الأرض ? خاف أن يختنق. كان الهواء قليلاً ورأى رجلاً مبتور الذراعين يقف جنبه وينظر اليه. سعل وبصق شيئاً أسود. اقتربت امرأة تلبس زي الصليب الأحمر وقالت انه تنشّق قليلاً من الغاز، لا يكفي كي يقتله لكن يكفي كي يأخذ إجازة ويذهب الى الخطوط الخلفية ويرتاح. كانت تبتسم وتلفظ كلمات اعتادت عليها بمرور الوقت. خلفها كانوا يحقنون، تحت القناديل، جرحى. وهكذا في مستشفى فوق وجه الأرض، وراء الخطوط الخلفية، التقى جو حدّاد صديقه جيفري ثورنتون مرة أخرى. تبادلا الأخبار. دخّنا تبغاً. ثم افترقا الى الأبد. * مقاطع من رواية تصدر قريباً. Ellis Island الوصول الى إليس أيلاند صلّت وهي ترى السيدة الحجرية تمدّ الشعلة الحجرية صوبها وتخرج من الضباب الذي يغطي البحر. سمعت صوتاً يقول هذا تمثال الحرية، وهناك وراء الضباب الغريب، هل ترون البنايات ناطحات السحاب، هذه مدينة نيويورك، انظروا البيوت العالية! طوال الوقت ظلّت تدمدم صلواتها وهي تنزل من الباخرة الى"إليس أيلاند". المهاجرون تدافعوا على"السقالة"الخشب وهي تمسّكت بحبال الدرابزين ورأت جرذان الماء تقفز من الصناديق الى الأرصفة. المبنى الضخم المتربع على الجزيرة ابتلع البشر المتدفقين كالأنهار من البواخر: أين يختفون؟ لا يغرقون في الضباب لكنهم يغيبون عنها في قاعات وممرات وغرف كثيرة. مثل قطعان نمل تغور في التراب. لسع هواء جليدي أذنيها. رجل يرتدي لباساً رسمياً ويعتمر قبعة عليها شارة معدنية ? هذا شرطة؟ - دنا منها وسألها من أين تأتي. تكلم بالإنكليزية، ولأنه تكلم متمهلاً فهمت كلماته. لعلها استوعبت قصده من دون أن تحدد معاني كلماته تماماً. كل ما تعرفه من هذه اللغة الغريبة تعلّمته على الطريق من بيتها البعيد في الجبل الى هذه القارة المغمورة بالضباب. دلّها الرجل الى صف كي تقف فيه. شعرت بنظرته تتبعها، تحفر ندبات خفيفة على كنزتها الطويلة الصوف. ثم انشغلت بالحصول على نقطة في الصف بين نساء باكيات وأولاد صغار يخفون وجوههم وراء التنانير. حاولت أن تتكلم مع إحدى النساء لكن المرأة لم تفهم لغتها. نظرت حولها تفتش عن وجه يشبه وجهها فلم تجد إلا العيون الغريبة. حتى الذين كانوا معها على الباخرة اختفوا. شدّت يدها على مسكة الكيس"الجنفيص"الذي يحوي حياتها. عندما وصلت الى المكتب حيث يقعد رجل يدخن ويكتب في دفتر ضخم لم ترَ مثله من قبله انقبضت معدتها. سألها عن اسمها. - مرتا أندراوس حدّاد. Martha Haddad لفظت اسمها الأول ثم عائلتها بالطريقة الأميركية كما علّموها على الباخرة التي حملتها من مرفأ الهافر الفرنسي عبر المحيط الشاسع الذي يسمّونه الأتلانتيك الى هنا. الرجل كشح غيمة الدخان ثم رفع القلم عن الدفتر وسألها من أين تأتي. - سورية. Syria. أنا من قرية بتاتر في جبل لبنان، بتاتر قريبة من عاليه وبحمدون. خافت من النظرة التي تخترق الدخان ثم أدركت أن الرجل لا يهددها. دام خوفها لحظة ثم أدركت أنه لم يفهم من جوابها غير كلمة مفردة وأن نظرته مصدرها الحيرة. اطمأنت رمشة عين ? برد العرق على رقبتها ? ثم باغتها الذعر من جديد: إذا لم يفهم لغتها كيف ستشرح لهم؟ إذا غضبوا ردّوها الى الباخرة لترجع من حيث جاءت! أشار لها الرجل أن تبتعد، أن تزيح من طريق الصف. ابتعدت فتقدمت امرأة أخرى واحتلت مكانها، وهذه تكلمت بالإنكليزية. كانت صفراء الشعر، وسمعت كلمات إنكليزية وأخرى من لغة غريبة ظنّت أنها سمعت مثلها على الباخرة. الرجل كرر من أقوال المرأة كلمة Poland وعبس واستدار ونادى اسماً فيه قرقعة حجارة. أتى رجل قصير من غرفة لم تتنبه لها قبل ذلك ووقف عند المكتب وبدأ يترجم أقوال المرأة ذات الشعر الأصفر. المكان يعجّ بالبشر والأصوات، لغات وألوان ووجوه، ناس يركضون وناس يبكون وناس يبحثون عن أوراق أضاعوها. من هنا تدخل أمواج المهاجرين الى أميركا. نحن في خريف 1913 وهنا يتقرر كل شيء، اما الدخول أو العودة. دقائق عبرت كالدهور عليها. رأت الصف ينقسم في اتجاهين. رأت رجلاً يحمل طبشورة يرسم بالطبشورة علامة ? على معاطف رجال اصطفوا حزانى الوجوه جنب الحائط. امرأة تتلقى العلامة ذاتها صاحت واستندت الى كتفي الرجل وصارت ترجوه بكلمات غير مفهومة ألا يفعل ذلك. مرتا أندراوس حدّاد نظرت الى مداسها السختيان الجلد الذي خاطه من أجلها خالها المريض في صدره ? طوال الوقت يسعل وهو ينحني على الصرامي ? ثم نظرت الى الدفتر الكبير على المكتب. رأت خطوطاً أفقية وعمودية، رأت أسماء وأرقاماً، وانتظرت ما سيأتي. كانت النوافذ العالية تُظلم عندما اقترب رجل وسألها بالعربية من أين تأتي، من أي مرفأ غادرت سورية، ومن يكفلها في أميركا؟ Little Syria الحي السوري - نيويورك إذا أخذتك الطريق عزيزي القارئ صدفةً الى أحد الأزقة القائمة بين"ألباني ستريت"و"ركتور ستريت"لن تصدق أنك في نيويورك! نظنّ أننا نعرف مدينتنا، نظنّ أن تسكعنا الطويل في أنحاء مانهاتن قد كشف لنا جميع خباياها، لكن قبل التوغل في"واشنطن ستريت"وفي الدروب الضيقة المتفرعة منه، كيف نتوهم أننا نعرف أحشاء هذه المدينة! هل تعرف عزيزي القارئ أن قطعة من سورية، قطعة من دمشق أو القسطنطينية، انتقلت كما هي ? بالبحر ? الى أميركا! إنها هنا، على بعد دقائق من بيوتنا وأعمالنا. اركبْ"الترام"من الجادة السادسة Sixth Avenue، من الشارع الثاني والأربعين، وفي لحظات ستجد نفسك في"ركتور ستريت"Rector Street: تنزهْ غرباً، اقطعْ مربعاً واحداً من الأبنية، وها أنت في سورية! هذا الشارع الذي شُق قبل مئة سنة ما زال على الحال نفسها منذ بداية القرن الماضي، بواجهة رخام عريضة ? هنا أو هناك ? لمصرف تجاري"وكل ما تفعله هذه الواجهة الرخامية هو توكيد الفقر الفظيع لمساكن القرميد المجاورة. المصارف والمتاجر تتراصف على جهتي الطريق ولكن إذا دخلت هذا الزقاق أو ذاك وجدت نفسك في أمكنة معتمة، ورأيت مداخل الى باحات أشد عتمة، وبعد الباحات المبلّطة بالحجر حيث تتراكض كلاب وقطط، تظهر بيوت شبه متداعية، مظلمة أيضاً، وينبت على حيطانها العفن! ما تلمحه خطفاً للوهلة الأولى يُخلّف فيك إحساساً عميقاً بالدهشة لا يتبدد حتى بعد زيارات متكررة للحي. هل سبق لك أن رأيت صور جاكوب ريس الفوتوغرافية المنشورة في 1890، صور مانهاتن السفلى الجنوبية؟ هل لمحت في أحد المعارض في"الفيفث أفنيو"لوحة W. Bengough"العنصر الأجنبي في نيويورك ? المستعمرة السورية"1895؟ إذا كنت تحسب ذلك جزءاً من الماضي المندثر فليس عليك إلا دخول المطعم على تقاطع شارعي ركتور وواشنطن"وحتى قبل أن تدخل المطعم، وفي نظرة واحدة سريعة الى المقهى المجاور، ستعرف أنك فجأة صرت في"الشرق"The Orient. الرجال الذين يقعدون هناك يغرقون في بحيرة دخان تخرج من الأراجيل التركية ذات القرقرة المائية التي تشبه الغناء ? غناء الطيور. عيونهم ناعسة، واسعة وسوداء، وسيقانهم تبدو مقوسة في البناطيل التي يستصعبون الحركة فيها لأنهم تعودوا على السراويل الفضفاضة في بلادهم وفي الصحراء. نادر أن ترى أحدهم يحمل جريدة وإذا حدث ذلك راقبه جيداً وسترى أن رقبته، أن رأسه نظرته، لا تتحرك كما تتوقع: إن نظرته تسافر على السطور من اليمين الى اليسار، وليس من اليسار الى اليمين... ذلك أنه يقرأ جريدة مطبوعة بالعربية ولا يقرأ جريدتنا New York Times. صدق أو لا تصدق: في مانهاتن جرايد تُطبع باللغة العربية ? جريدتان تُوزعان معاً ألف نسخة معظمها اشتراكات، ومجلة شبه أسبوعية فنية يشرف عليها الشاعر جبران الذي يكتب بالإنكليزية أيضاً. يحبّون هنا قصب السكر ويجلبونه من الحي الصيني الذي يبعد دقائق عنهم. لكن حلواهم المفضلة هي الفواكه المجففة وتجدها في مرطبانات زجاج في واجهات متاجرهم ولا تعرف أين نبتت هذه الفواكه ولا في أي أطعمة يستخدمونها، كما يصنّعون حلوى غريبة من العجين والسكر وهي ثقيلة على الجهاز الهضمي. هذا كله تذوقته في المطعم المذكور بعد وجبة من الرزّ ولحم الضأن المقطع والمشوي على السيخ ويقدمونه على طبق خشب مع خبز غريب يشبه البسكويت الطري. الطاولات في المطعم من خشب الصنوبر الأحمر، وهي تتراصف متجاورة، وعليها أغطية ومفارش ملونة، إضافة الى صحون البورسلين. صاحب المطعم يستقبلك بنفسه لابساً المريول الأبيض وهو يرفع كميّ قميصه حتى زنديه. إنه يعرف جميع الزبائن بأسمائهم الأولى، وبعد جلوسك مباشرة يصل إليك الحليب المرّ ? الذي يسمّونه اللبن ? في طاسة فخار، وهو مقدمة طعامهم، فكأنك دخلت خيمة في الصحراء والآن يستقبلك الراعي العربي الكريم بنتاج إبله. مع أنك تسمع وأنت تشرب اللبن الأبواق البحرية للبواخر تختلط بضجة شوارع نيويورك وتكاد تصمّ أذنيك!. الناس هنا يعرفون الصغيرة والكبيرة ولا أسرار عائلية فكل شخص يعرف شيئاً يجلبه مباشرة الى المقهى وهكذا يُذاع. ومرات تسبق الإشاعة الحدث كما جرى عندما تحدث رجل عن مقتل إحدى النساء بسبب علاقة عاطفية خارج زواجها ولم تمضِ أيام حتى قُتِلت المرأة فعلاً على الطريق وأمام عيون المارة أنظرْ أعداد الأسبوع الأول من أيار/ مايو في جريدتنا، هذه السنة نفسها. السوريون أذكياء، تجار بالفطرة، ومحبّون للعمل. الأشغال اليدوية التي تخرج من بين أصابع نسائهم حازت شهرة في أنحاء أميركا. المرأة تابعة للرجل، الزوج أو الأب أو الأخ، ومع ذلك ترى نساء يحملن السلة ويخرجن الى الطريق اثنتين اثنتين لبيع الأمشاط والدبابيس والمقصات والخيطان وهنَّ أنجح من الرجال في هذه المهنة لأن ربّات البيوت الأميركيات يفضلن التعامل مع بنات جنسهن. العائلات الآتية من وراء البحر جلبت معها الى العالم الجديد عاداتها وتقاليدها... كما جلبت الخلافات. الموارنة وهؤلاء طائفة مسيحية شرقية والدروز وهؤلاء مسلمون يتقاتلون هنا أحياناً كما فعلوا قبل سنوات وعقود في جبل لبنان. نشر في العدد: 16769 ت.م: 03-03-2009 ص: 26 ط: الرياض