مأساة أن تكون كاتباً في هذا الزمن وفي مصر على وجه التحديد. وللمأساة أسباب. أول هذه الأسباب هو السؤال المؤرق الكبير عن جدوى الكتابة. فالأمر يبدو أشبه بمن يحرث في البحر. كل هذا الكم من الكتابات اليومية ولا حياة لمن تنادي. يتسلل الشك إليك وتتصاعد أبخرة الأسئلة: هل فقدت الكتابة صدقها أم يعيش الكتّاب أزمة صدقية أم هو جمهور القراء الذي لم تعد تستهويه اللعبة، أقصد الكتابة، فانصرف تحت وطأة الأعباء المعيشية ليواصل معركته الأكثر شراسة ونبلاً في التصدي للغلاء وتعليم الأولاد والبحث عن وظيفة أو مسكن أو علاج؟ يتساءل المرء أحياناً: لماذا نكتب وكيف يمكننا أن نقيس جدوى الكتابة في حياة الناس؟ 1 يفترض اننا نكتب لغايات متنوعة أسماها وأنبلها السعي لتغيير مجتمعنا إلى الأفضل وربما العالم كله إلى ما نعتقد بصدق وإخلاص أنه الحق والخير والعدل والجمال، هذه هي رسالة الكلمة الأخلاقية والاجتماعية وهي أنبل غايات الكتابة. وقد نكتب لمجرد إرضاء هذا النداء الداخلي المسحور الذي يعتمل في دواخلنا ويدفعنا للكتابة لأنها قيمة جمالية في حد ذاتها، مثل رجل وحيد يرسم لوحة رائعة الألوان مع أنه يعلم أن أحداً قد لا يراها، وهذه غاية رومانسية وزاهدة. وقد نكتب لتحقيق الذات وكسب العيش وهذه غاية براغماتية ومعيشية للكتابة ليس فيها ما يشين في ذاته متى كنا لا نفرّط بالمبادئ والقيم النبيلة التي تفرضها رسالة الكلمة. وقد نكتب أخيراً لكي نسخّر الكلمة لأهداف انتهازية فتصبح الكتابة أداة - مجرد أداة - لتحقيق غاية أنانية تضلل أكثر مما ترشد وتتخفى وراء المصلحة أكثر مما تبحث عن الحقيقة. الحاصل اليوم أن معظم هذه الغايات قد تداخلت وتشابكت فلم نعد نعرف على وجه اليقين لماذا نكتب؟ اخترقت السياسة كتاباتنا وتسللت المصالح إلى حروفنا وكلماتنا وامتلكت النرجسية ناصية أقلامنا، فبدت معظم كتاباتنا أقل نقاء وصدقاً وتلقائية. كتاباتنا تبدو اليوم مرهقة وحائرة ومتوترة وهي تئن تحت وطأة المأزق السياسي الذي تمر به مجتمعاتنا في مرحلة مخاضها الشاق العسير لولادة دولة الديموقراطية والحرية والعدالة. كان المفروض والمتوقع أن يفرز هذا المناخ السياسي كتابة نقية بنقاء المعادن النفيسة التي يتم صقلها في أفران الحرارة العالية. لكن يبدو أن الاستقطاب السياسي الذي تعيشه مصر والعالم العربي كله قد أرهق الكتابة وأربك الكتّاب. تمترس كل فريق خلف عقائده السياسية وربما قبيلته وارتباطاته وتحالفاته ومصالحه ما بين عولميين ما زالوا يعتقدون أن القادمين من وراء المحيط وعبر المتوسط سيمطرون بلادنا رغداً ورخاء وحريات وما بين عروبيين ووطنيين ما زالوا قابضين على أحلام أوطانهم في الكرامة والوحدة والتقدم كما القابض على الجمر. ثمة استقطاب سياسي محلي آخر ما بين فريق أول يتشبث بالأوضاع القائمة من دون أن نعرف ما إذا كان تشبثه عن خوف مبرر وحقيقي من البديل الذي يقال إنه سيصادر حريته مع أن هذه الحرية ما زالت حتى اللحظة محل شك كبير، أو ما إذا كان هذا التشبث عن رغبة في الاستفادة من بقاء الأوضاع على حالها حيث ارتباط المصالح يوجب وحدة المصير! وفريق ثان يسعى إلى التغيير وينثر الأحلام والوعود، لكن المقلق والغريب أن أطراف هذا الفريق يتنازعون منذ الآن ويتبادلون الاتهامات حتى من قبل أن يجنوا عوائد النضال... فهل تحافظ الكلمة على رسالتها في مثل هذا الكتابة المسيّسة تسييساً؟ 2 هو إذاً سؤال مؤرق محيّر: هل أثمر النضال السياسي من أجل الديموقراطية والحرية والعدالة كتابة ملهمة وسامية وسامقة أم أنه خلق حالة من الاستقطاب وشباكاً من المصالح حادت بالكلمة عن وجهتها؟ هل بقي هذا النضال السياسي على نقائه أم أنه كان واجهة لصراعات وحسابات حزبية وقبلية وطائفية فأصبحت الكلمة أحياناً مثيرة للفتن والتشرذم والكراهية؟ مأساة أن تكون كاتباً في هذا الزمن. ففي ظل هذا الاستقطاب السياسي لا يخرج الأمر عن أحد فرضين: أن تكون منتمياً الى أحد أطراف هذا الاستقطاب السياسي من موالاة ومعارضة وجماعات دينية ومجموعات مصالح، فيصبح لك سند وآلة للتسويق والترويج وقوى خفية تحميك عند الاقتضاء. والفرض الثاني ألا تكون منتمياً الى أحد هذا الأطراف الأربعة. حسبك أنك باحث عن الحقيقة تنشدها أينما كانت. هنا يبدو طريقك صعباً محفوفاً بالتجاهل وربما بالشكوك. الموت وحده يمكن أن يعيد اليك شيئاً من تقديرك الأدبي وقيمتك الفكرية في مجتمع يجيد فنون الاحتفاء بالموتى منذ آلاف السنين. والكتابة السياسية تزيد من أهميتك وترفع معدلات توزيع صحيفتك أو كتابك، لأن الكلمة المكتوبة أصبحت إحدى أدوات الصراع السياسي والحزبي في مجتمعات بلا سياسة ولا أحزاب! فكأنما المبارزة هي للفوز بما هو غير موجود أصلاً. والكتابة السياسية على ما فيها من إثارة تثير إعجاب جمهور متعطش لأن يقرأ كلمة لا، وأن يشمت بسلطة يرى أنها تذيقه الهوان والقهر، فيبدو القراء أشبه بمشاهدي لعبة مصارعة المحترفين وهم ينهضون ويصرخون إعجاباً بمن أسقط خصمه وأشبعه لكماً. صحيح أننا لا نعرف أحياناً ما إذا كانت مباريات المصارعة الحرة التي نشاهدها هي مباريات حقيقية أم أنها استعراضات خادعة تنطوي على التظاهر والتمثيل... المهم هو التنفيس عن غرائز الجمهور وانفعالاته، لكن فقط في الحلبة المعدّة سلفاً. هكذا تضعك الكتابة السياسية في قلب المشهد الجماهيرى وتجعل منك في هذا الزمن نجم شبك بلا منازع! 3 اصبحنا نكتب في السياسة أكثر مما نكتب في الاجتماع أو الثقافة أو الأخلاق أو العلم، وتضاءلت في الصحف اليومية مساحة الكتابات الفكرية والاجتماعية والثقافية. ربما يرى البعض أن السياسة هي التي تصنع كل ذلك وتوجهه، لكننا ننسى في المقابل أن كل معرفة اجتماعية وثقافية وعلمية وأخلاقية إنما تساهم في إذكاء الوعي السياسي لدى الناس بل وتثويره ليصبح قوة رشيدة وعاقلة وجسورة تعرف جيداً طريقها ووسائلها إلى الإصلاح. فالتنوير كان الأسبق تاريخياً على فكرة الثورة. مأساة أن تكون كاتباً في هذا الزمن. فحتى حين تكتب في السياسة، ليس المهم كيف تكتب، ولا أن تتحلى بأمانة التحليل ودقة التشخيص وتجرد الاستنتاج. ليس مطلوباً ولا محبذاً أبداً أن تمتلك تواضع الباحث أو المفكر أمام حقيقة مركبة معقدة تعالجها في كتاباتك. ومكروه أن يكون لكتاباتك طابع علمي في بلاد تمقت العلم. المطلوب أن تكون كتاباتك مسليّة خفيفة وسهلة. ولو عاد طه حسين وعباس العقاد والمازني وعبدالرحمن الشرقاوي وزكي نجيب محمود... لما قرأ لهم أحد، ولربما انزوت كتاباتهم مهجورة في الصحف من دون أن يعلق عليها"تفاعلي"واحد. هؤلاء كانوا كتّاباً حقيقيين يكتوون بمعاناة البحث عن الحقيقة لا عن الجمهور! 4 يقول الشاعر الراحل أمل دنقل: "... حين سرت في الشارع الضوضاء واندفعت سيارة مجنونة السائق تطلق صوت بوقها الزاعق في كبد الأشياء تفزعت حمامة بيضاء كانت على تمثال نهضة مصر تحلم في استرخاء...". * كاتب مصري