رؤساء المجالس التشريعية الخليجية: ندعم سيادة الشعب الفلسطيني على الأراضي المحتلة    قرارات «استثنائية» لقمة غير عادية    رينارد: سنقاتل من أجل المولد.. وغياب الدوسري مؤثر    «التراث»: تسجيل 198 موقعاً جديداً في السجل الوطني للآثار    كيف يدمر التشخيص الطبي في «غوغل» نفسيات المرضى؟    فتاة «X» تهز عروش الديمقراطيين!    الشركة السعودية للكهرباء توقّع مذكرة تفاهم لتعزيز التكامل في مجال الطاقة المتجددة والتعاون الإقليمي في مؤتمر COP29    محترفات التنس عندنا في الرياض!    عصابات النسَّابة    «العدل»: رقمنة 200 مليون وثيقة.. وظائف للسعوديين والسعوديات بمشروع «الثروة العقارية»    ذلك «الغروي» بملامحه العتيقة رأى الناس بعين قلبه    رقمنة الثقافة    الوطن    على يد ترمب.. أمريكا عاصمة العملات المشفرة الجديدة    هيبة الحليب.. أعيدوها أمام المشروبات الغازية    صحة العالم تُناقش في المملكة    لاعبو الأندية السعودية يهيمنون على الأفضلية القارية    «جان باترسون» رئيسة قطاع الرياضة في نيوم ل(البلاد): فخورة بعودة الفرج للأخضر.. ونسعى للصعود ل «روشن»    تعزيز المهنية بما يتماشى مع أهداف رؤية المملكة 2030.. وزير البلديات يكرم المطورين العقاريين المتميزين    المالكي مديرا للحسابات المستقلة    أسرة العيسائي تحتفل بزفاف فهد ونوف    بحضور الأمير سعود بن جلوي وأمراء.. النفيعي والماجد يحتفلان بزواج سلطان    أفراح النوب والجش    استعراض جهود المملكة لاستقرار وإعمار اليمن    وصول الطائرة الإغاثية السعودية ال 23 إلى لبنان    الطائرة الإغاثية السعودية ال 23 تصل إلى لبنان    الطائف.. عمارة تقليدية تتجلَّى شكلاً ونوعاً    أكبر مبنى على شكل دجاجة.. رقم قياسي جديد    استعادة التنوع الأحيائي    الخليج يتغلّب على كاظمة الكويتي في ثاني مواجهات البطولة الآسيوية    حبوب محسنة للإقلاع عن التدخين    التقنيات المالية ودورها في تشكيل الاقتصاد الرقمي    أجواء شتوية    السيادة الرقمية وحجب حسابات التواصل    العريفي تشهد اجتماع لجنة رياضة المرأة الخليجية    المنتخب يخسر الفرج    رينارد: سنقاتل لنضمن التأهل    فيلم «ما وراء الإعجاب».. بين حوار الثقافة الشرقية والغربية    «الشرقية تبدع» و«إثراء» يستطلعان تحديات عصر الرقمنة    «الحصن» تحدي السينمائيين..    مقياس سميث للحسد    أهميّة التعقّل    د. الزير: 77 % من النساء يطلبن تفسير أضغاث الأحلام    ترامب يختار مديرة للمخابرات الوطنية ومدعيا عاما    قراءة في نظام الطوارئ الجديد    الرياض .. قفزات في مشاركة القوى العاملة    كم أنتِ عظيمة يا السعوديّة!    الذاكرة.. وحاسة الشم    أمير المدينة يتفقد محافظتي ينبع والحناكية    السعودية تواصل جهودها لتنمية قطاع المياه واستدامته محلياً ودولياً    القبض على إثيوبي في ظهران الجنوب لتهريبه (13) كجم «حشيش»    نائب وزير العدل يبحث مع وزير العدل في مالطا سبل تعزيز التعاون    وزير الداخلية يرعى الحفل السنوي لجامعة نايف العربية للعلوم الأمنية    إرشاد مكاني بلغات في المسجد الحرام    محافظ الطائف يرأس إجتماع المجلس المحلي للتنمية والتطوير    نائب أمير جازان يستقبل الرئيس التنفيذي لتجمع جازان الصحي    محمية جزر فرسان.. عودة الطبيعة في ربيع محميتها    إضطهاد المرأة في اليمن    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



«الثقافية تسأل» ..لماذا ننشر ما نكتبه؟
الخطاط بدر الجفن
نشر في الجزيرة يوم 07 - 05 - 2016

خيار الاحتفاظ بما نكتب في درج ما ربما أكثر أمناً من أن يحفظ «علناً» وإلى الأبد، فهل قرار النشر مخاطرة؟
بعض الناس يعتقد وربما يؤمن بأن النشر فعل تطهر، مشاركة، تباهي، حاجة، رسالة ... وقائمة الخيارات طويلة جداً. فلماذا نقوم به؟؟
«لماذا ننشر ما نكتبه؟»
سؤال طرحته «الثقافية» على كتّابها فكانت الإجابة...
سهام القحطاني: «فكرة النشر عندي مرتبطة بقيم الدور الثقافي التي يؤمن بها كل كاتب، والتي قد يتفق الكتّاب على عمومياتها، وقد يتباينون في تفاصيلها، ثم القيم التي تُفرض من قِبل المجتمع لينفذها الكاتب كونه صانع رأي عام ومصدراً لتغذية راجعة. بلاشك ستظل «قيمة تحقيق الذات المفكرة» أول القيم التي يسعى إليها كل كاتب من قصدية النشر، فالنشر هو بطاقة التعريف لكل كاتب، ولكن هذه القيمة، هي قيمة مرحلية، يتجاوزها الكاتب بمجرد تعرّف القارئ عليه.
إن خطورة النشر أنه «ضابط للتسلسل التاريخي لنضوج الكاتب من عدمه» و»كشّاف لأصالة الكاتب من عدمها»، فالنشر هو «مدونة للتاريخ الفكري للكاتب»، والإيمان بهذه الثيمات تطوّرت عندي دلالة النشر من كونها وسيلة تعريف إلى قيمة مشروطة بالإضافة.
فيجب أن يتصف ما تنشره «بقيمة إضافية» والبحث عن تلك القيمة غالباً هو الذي يرهق أي كاتب، ولذلك كانت فكرة الاختلاف والتميز والطيران خارج السرب هي هدف من أهداف النشر عندي، كما أن فكرة ترسيخ «المساواة الفكرية بين الرجل والمرأة» كانت من أهداف النشر عندي، فلم أؤمن يوماً بأن هناك موضوعات مخصصة للرجال وأخرى للنساء، ولعل إيماني هذا جعلني أقتحم باب الكتابة السياسية، وبذلك أصبح النشر وسيلة ناعمة لمكافحة التمييز ضد المرأة وترسيخ فكرة المساواة الفكرية.
إن قيمة ما ننشره غالباً ما يرتبط بمفهومنا للنشر، وكلما آمنا بأهمية النشر وخطورته سعينا إلى تحسين ما سننشره وفاعليته على تطوير القارئ، وبذلك أصبح النشر عندي قيمة محسوبة الغاية مسبقاً.
فالنشر في نهاية الأمر هو «ترويج لسلعة فكرية أو تحليلية»، وكلما اقتربت السلعة من القيمة التداولية زادت فائدتها للآخر أو للمجتمع، وهذه المعادلة جعلتني أنظر إلى النشر إلى كونه ممثلاً «لخدمة معرفية» مُلزم الكاتب بمراعاتها؛ لأن المادة المنشورة هي مُساهم في تقديم بيان معرفي للقارئ قد يستلهم في ضوئه موقفه أو تحليله أو معاييره أو حتى خلفيته المعلوماتية.
وهذه القيمة من النشر تعلّم الكاتب أو أي مصدر نشر تحري الأمانة الفكرية والموضوعية ومصلحة الجماعة. إن كل منشور هو مصدر ثقافي، وبذلك فالكاتب في هذا المقام يقوم بمسئولية تفعيل الثقافة، باعتبار أن كل مصدر نشر هو محسوب على الثقافة، إحدى مصادر تمويل الوعي الاجتماعي وتطويره، الواجب الذي لا يمكن أن يتملص منه أي كاتب، ربط النشر عندي بهدفين «نمو التجربة الفكرية للكاتب والقارئ» و»تنقية الخبرة الفكرية الخاصة أو العامة من الشذوذ والانحرافات».
وهنا يتمثل القصد العلاجي لمحتوى المنشور، أو القصد التعزيزي لذلك المحتوى، وفي كلا الحالتين يجب أن لا يخرج محتوى المنشور عن غاية التغذية الراجعة للوعي الجمعي. وبذلك يصبح النشر مرتبط بما يحتاج المجتمع من تثبيت قيم أو تفكيك أفكار قد تجلب له الضرر. ما أريد إجماله في هذه المسألة أن الكاتب غالباً مقيد بمعايير لكل ما ينشره؛ كونه ممثلاً للقيم الحضارية والفكرية للقارئ وللمجتمع وضابطاً للتغذية الراجعة الحضارية، ومتى ما دخل المعيار في اختيارنا فقدنا الحرية المطلقة لقصدية القول والنشر؛ لأننا نكتب من أجل الآخرين وننشر من أجلهم أيضاً، ولذلك يظل الآخرون هم المتحكمون في مسوغات ما ننشر لا نحن.
الكتابة بالضرورة.. فعل تبشيري
عبدالله العودة: «أي عمل كتابي أو نشر يبدو لي أنه يحتوي بالضرورة على عنصر التبشير الضروري، وإن كان درجة هذا التبشير ومركزيته قد تختلف من شخص لآخر، ومن كان يظن مثلاً أن عمل الكتابة والنشر عمل استمتاع شخصي أو تطهّري أو غير ذلك، فإن عنصر التبشير مضمر في كل ذلك، وهو الذي يعطي الاستمتاع أهميته أو التطهّر حساسيته.
المهم في كل ذلك الاعتراف بالتبشير ومحاولة توجيهه بوعي، والتحكم به عوضاً عن الانخراط الشديد فيه في لحظات غفلة ذاتية آو محاولة ردم.
كان كارل ماركس يرى أن الفلاسفة قبله اهتموا بما وصفه هو بأنه «الانشغال بتفسير العالم»، وكان هو يرى أن تفسير العالم شيء ترفي غير عملي ولا يؤدي بشكل حقيقي لصناعة التغيير. وبالتالي فإن ماركس حاول صناعة تحويل العمل الفلسفي من «تفسير العالم» إلى «تغيير العالم»، ظاناً بأن تفسير العالم لوحده ليس فعلاً تبشيرياً بما فيه الكفاية.
بعد تعثّر الحركات الإيدلوجية اليسارية والماركسية وغيرها في الستينات والسبعينات حاولت أقلامُ مستقلة نقد الالتزام والانتماء وشاركت مع تيار ما بعد الحداثة في تقديم نقد شامل لعمليات التبشير الفكري الممنهجة، لدرجة أن وصف شيء ما بأنه «رسالي» أصبحت شتيمة مقذعة!
وقدمت تيارات التقويض والنقد ما بعد الحداثي مراجعات جادة وقوية على تجارب التبشير، وكان ذلك النقد إضافة مهمة ونقداً ومراجعة لتجارب النضال والتبشير الإيدلوجي والفكري التي راجت في النصف الأخير من القرن الماضي، لكنه فشل لحد كبير لأنه اتخذ موقفاً شمولياً تعميماً من النضال ذاته ومن فكرة النضال .. ومن أي عمل تبشيري بوصفه عملاً تبشيرياً.
في هذه اللحظة النقد للعمل التبشيري يمارس مأزقاً لا يمكن حله حينما يمارس التبشير ضد فكرة التبشير ذاته، فأي عمل فكري يتم نشره وإعلانه بالضرورة يحتوي على نسبة ضرورية من التبشير تمنحه الحياة وتجعله شيئاً يحاول «إقناع» الآخرين بشيء ما.. وهذا بالتحديد دون شك عمل تبشيري، فكيف لشخص يمارس التبشير بشكل ضروري حتى في حالة نقده للتبشير أن يقدم هذا النقد الشامل التعميمي لفكرة التبشير ذاتها؟!
من ذا الذي ينشر شيئاً أو يكتب عنه ثم لا يرجو ولا يرغب بأن أحداً يقرأه يقتنع به ويعجبه، إلا إذا كان مجنوناً. أي فعل كتابي هو عمل تفاعلي يتحدث لشخص ما، أو لمجموعة قراء، ويحاول لفت انتباههم والحصول على إعجابهم وبالتالي الاقتناع بما يقول، وهذا هو الحد الأدنى لأي عمل تبشيري ضروري.
الشيء الذي أخفق ماركس وناقدوه في تفهّمه هو أن حتى العمل الذي يصفونه بأنه «تفسير العالم» يحتوي بدرجة ما على رغبة بتغييره بدرجة أو بأخرى، فحتى الدراسات السياسية الحديثة تتحدث عن ظاهرة صناعة التأثير الأعمق في السياسية من خلال «الخيال السياسي» ومن خلال «الرواية»، وكيف أن السرديات التاريخية والحديث عن التاريخ وعن بطولات معينة وطريقة روايتك للأحداث يسهم بشكل كبير في صناعة الواقع السياسي ودوره في التأثير على الأنظمة الحديثة.
ضمن هذا الفهم، كل الأنظمة سواء كانت ديمقراطية أو ديكتاتورية، ملكية أو جمهورية، تنطوي على روايات وسرديات تاريخية سياسية صنعت وجودها الحالي، وحكاية تلك الأحداث والروايات أو مجرد الكتابة عنها تسهم بشكل جبار في صناعة الواقع السياسي وترسيخه أو ربما تهديده.. برغم أنها مجرد محاولات ل «تفسير العالم» بحسب تعبير ماركس!
بعد هذا كله، لماذا يكتب الكتّاب؟ أتصوّر أنه بدافع تبشيري ضروري إما بفكرة آو رواية أو بالرغبة بالإعجاب بعمل أدبي فني أو أدبي.. أو غيره وكل ذلك يحتوي على نسب مختلفة من الدعوة للقناعة، لذلك، الكتابة بالضرورة.. فعل تبشيري».
وظيفته النشر اجتماعياً
عبدالله الفيفي: «إن الوظيفة الأرسطيَّة للفنون- في ما دعاه (أرسطو) بالتطهير أو التنفيس: Catharsis- لا تتعلّق بالجمهور المتلقّي فحسب، بل تتعلّق قبل ذلك بالمبدع. حتى إن نظرية (سيجموند فرويد) في التحليل النفسي قد أقيمت على الأدب والأدباء، وكان يرى أن الأديب عصابيّ يعالج نفسه بأدبه فلا يصيبه ما يصيب غيره ممّن لا ينفّسون عن عُقدهم بوسائل تشفيهم ممّا في نفوسهم. وهكذا كان الأدب مادة أساسًا في علم النفس وعلم الأخلاق وعلم الاجتماع. على أن الكتابة لا تؤدي وظيفتها تلك تمام الأداء ما لم ينشر المبدع عمله، فيحظى بالتغذية الراجعة، من القراءة والتفاعل.
وإذا كان النشر يحقِّق للكاتب ذلك أو بعض ذلك على الصعيد النفسي، فإن للنشر وظيفته على الصعيد الاجتماعي. فثمة فارق بَيِّن بين كتابة استهلاكيّة، بلا امتداد فكريّ، ولا هدف تواصليّ مع متلق افتراضيّ، وكتابة تنظر إلى ما وراء المظاهر والممارسات من قِيَم ودلالات ورسائل. والثقافات كلها والفنون والحضارات إنما هدفها تهذيب الناس وإصلاح الحياة، وتعزيز الحق والخير والجمال في النفوس والمجتمعات.
هاتان الوظيفتان (النفسيَّة والاجتماعيَّة) وظيفتان طبيعيَّتان وإيجابيَّتان للكتابة والنشر. غير أنها تنشأ إلى جوارهما وظائف أخرى سلبيَّة كثيرة، من النزوع إلى التلاحي، أو طلب الصيت والشهرة والمال. فنحن - على سبيل المثال - كثيرًا ما نظهر ثقافيًّا في أحراش (جرير) و(الفرزدق) النقائضيَّة، محافظين وليبراليّين، فتُتَّخذ الكتابة والنشر كي يهدم كاتب آخر، ويكيد له كيدًا عبر وسائل الكتابة والأدب، وإنْ تحت دعوَى التنوير والتغيير وكشف المسكوت عنه والحُريَّة. ولا تنوير هناك ولا تغيير ولا كشف مسكوت عنه ولا حُريَّة، وإنما هو تهارش قبائل وانتماءات وولاءات وتعصّبات، لا يمكن أن تؤسّس في واقعها المشهود مجتمعًا ثقافيًّا حضاريًّا، تتعايش فيه جميع الأطياف والرؤى على اختلاف مشاربها.
ولقد كُنّا منذ حين - على سبيل مثال آخر من طلب الصيت والشهرة والمال - نشكو من رغبة الجميع في أن يكونوا شعراء، ولاسيما بعد حطّ الإصر المعياري عن القصيدة العربيّة؛ إذ صحونا وقد أصبح الناس جميعًا شعراء من رجال ونساء، وفتح السدّ على مصراعيه ليأجوج ومأجوج الخواطر الشاعريَّة لتُسوَّق وتُسمَّى شعرًا وقصائد، يتفانى النقّاد في تبيان أوجه الجمال والكثافة والسخافة فيها! ومَن لم يمت بالشِّعر مات بغيره، فغدونا ذات يوم آخر - وبعد فوز (نجيب محفوظ) بنوبل - نعاني من رغبة الجميع كذلك، شِيبًا وشبّانًا، في أن يكونوا روائيِّين. وهذا توجّه جميل، لو صَدَق، وحُلم مشروع، لو وَقَف الأمر عند هذا الحدّ؛ فالكتابة حقّ مشاع، والقارئ سيصفّي ما يستحق البقاء ممّا لا يستحق، لكن الأمر صار إلى فرض أنماط، والتنظير لأخرى، بما يُفضي إلى ترسيخ ذائقة، وتحريف قِيَم، والترويج لضحالةٍ وتهافتٍ وعُملات زائفة على حساب الأصيل والحقيقيّ والقيِّم. وصاحبَ ذاك تنازُل النقد عن أن يكون معياريًّا، ثم ها هو ذا يتنازل عن أن يكون نقديًّا أصلًا، بل ثُلليًّا، مجامِلاً، يكتب وينشر- كالشاعر القديم - متى شرِب أو رغِب أو طرِب (فكريًّا/ اجتماعيًّا/ إديولوجيًّا، لا فنيًّا بالضرورة)!
ومهما يكن من كتابة ونشر، فالتاريخ كفيل بغربلة الصحائف جميعًا، «فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً، وأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ في الأَرْض».»
الكتابة فعل تطهر!
بثينة الإبراهيم: «حسنٌ، لن يكون الجواب على هذا السؤال سهلاً بأي حال من الأحوال! تقول فرجينيا وولف متحدثة عن تاريخ الأدب الإنجليزي وكيف أنه يدين بشيء من عظمته إلى كون الكتابة، كانت فنًا غير شائع يمارسه طلبًا للشهرة أكثر من المال أولئك الذين كانت تجبرهم موهبتهم على ذلك، فالسعي نحو الشهرة مطلب مشروع - إن صح التعبير - لكل من يكتب، بل يمكن القول إنها مطلب للجميع على مر العصور، الجميع بلا استثناء تقريبًا الملوك والفاتحين والعلماء والمهندسين والكتّاب أيضًا، لأنها ترضي شيئًا من نزعة الغرور المتأصلة في البشر مهما كانت ضئيلة!
بالنسبة لي أؤمن أن الكتابة بشكل أساسي هي فعل تطهر أمارسه بانتظام بأشكال مختلفة، ككتابة اليوميات والرسائل إلى أمي كل ليلة، بالإضافة إلى كتابتي المنتظمة لرسائل استمرت مدى عامين وانقطعت، ورسائلي للأصدقاء كنت فيها أتخلص من عبء التواصل الشفهي الذي لم أتقنه يومًا! لذلك لا بد أن يكون النشر وسيلة أخرى لتواصلي، كرة من القطن أسد بها فجوات تواصلي السيء وافتقاري لمهارات الحديث (وليس لآدابه حتمًا)، لكنه لن يكون بأي شكل من الأشكال مساحة للشهرة أو للتباهي، بل هو على العكس من ذلك تمامًا لمن يعرفني ولمن لا يعرفني أيضًا، لذا فالنشر بالنسبة لي فعل مكمّل لفعل الكتابة الأسمى!
هناك سبب آخر يحرضني على النشر، الرغبة في التوثيق، لكنه توثيق مختلف... توثيق احتجاجي على عالم لم يعد أكثر من كتلة هلام، يمكن القول إنها نوعٌ متطور من الكتابة على الجدران، شيء يشعر المتلقي أنني أشاركه إياه وأتشارك به معه، شيء يعنيني ويعني الجميع في الوقت نفسه! وقد يكون في ذلك شيء من المنفعة الذاتية قبل أن يكون فيه منفعة للقارئ، وأعتقد أن هذا يشترك فيه كل الكتّاب على اختلاف الأجناس الأدبية التي يكتبونها.
تلازم الكتابة والنشر
عمر المحمود: «نحن نكتب لننشر، عاجلاً أو آجلاً، ومهما قيل إننا نكتب لأنفسنا فنحن في الحقيقية نكتب للآخرين، ولهذا أرى أنَّ الكتابة والنشر متلازمان لا ينفكُّ أحدهما عن الآخر، وعليه يمكن القول إنَّ أهم سؤال وأخطر استفهام يمكن أن يواجه الكاتب هو حين يُسأل عن الأسباب التي تقوده إلى الكتابة والنشر، والعلل التي تجعله يغازل الحروف في كل وقت وحين لينثرها على صفحة بيضاء (ورقية) أو (إلكترونية)، ثم يودعها ليلتقي بها مرة أخرى في عمود صحيفة أو زاوية مجلة، وربما ودعها دون لقاء!
وهذا السؤال يتظاهر بالوضوح والسهولة، أو هكذا يبدو للكثيرين، غير أن الإجابة عنه تحتاج إلى كثير من التأمل، لأنها تحدد نهج الكاتب وتفضح روحه، وتكشف عن أنواع المتلقين الذين يقصدهم بالكتابة، وتفصح عن كثير من ملامح تعاملاته الحياتية.
هل يتصور الكاتب أن حروفه تنبع من شعوره بإنسانيته؟ أم أنه يرى أن المسؤولية الاجتماعية هي من تحرضه على إبداعها؟ بعض الكتاب يدعي أن نشر كتاباته تخفيف عما يحس به من آلام ومعاناة تصيب روحه، وبعضهم يزعم أن إعلان عباراته تفتح أبواب التفاؤل والأمل للأمة التي ينتمي إليها، وبعضهم الآخر يؤكد أنها محاولات جادة للهروب من زنزانة الجسد، حيث التحليق في فضاءات الكلمة وجماليات الصورة وعبقريات الخيال والاستعارة.
هل يمكن أن تكون الرغبة في الخلود والبقاء سبباً للكتابة والنشر! وهل يمكن أن يتعامل الكاتب مع ألفاظه ومعانيه وكأنها سيوف تخوض غمار المعركة! أو رماح تتطاير في أجوائها! أو سهام يلقي عليها القوسُ نظرة الوداع وهي تنطلق بكل شوق إلى مقصدها! ولكن.. هل يتصور المتلقي بعد كل هذا أن المؤلف يمكن أن ينسى نفسه في سبيل تحقيق هذه الأهداف المثالية؟
هذا ما يجيب عنه الروائي والصحفي البريطاني (جورج أورويل) في كتابه المترجم مؤخراً «لماذا أكتب؟»، حيث يضع أربعة دوافع للكتابة، يأتي على رأسها «حب الذات الصرف»، وهنا يستوقف القارئ صراحة أورويل ورؤيته اللاذعة لنوعية من الكتاب الذين يسعون إلى الشهرة والظهور، ولنوعية أخرى يوظفون الكتابة للتخلص من آثار حدث سيئ وقع لهم من خلال التخفف منه، عبر نقل تجربتهم في التعامل معه إلى القراء، ولنوعية ثالثة يداعبهم المؤلف بالتأكيد على أن كتاباتهم كانت محاولةً للانتقام من أشخاص عديدين نغصوا عليهم حياتهم منذ بداية وعيهم بالعالم، ونماذج أورويل تحركهم جميعا الرغبة في أن يصفهم القراء بالذكاء ويتذكروهم بعد الموت!
يقول بعضهم: نكتب أو ننشر حيناً لأننا أنانيون نحب ذواتنا المتضخِّمة بشغف، ولا نخاف من إعلان هذا الحب على الملأ، وحيناً لنؤكد على جهلنا، ولنبحث عن قبس هداية ونار دافئة تعيد للذكرى حبَّ الأم اللامتناهي، ودِفء حُضنها وأمنه، مثلنا حين نكتب كطفل يقف على أصابع قَدَميه، ويشد قامته؛ لكي يقنع ابن الجيران بأنه أكبر وأفهم، وحيناً ثالثة لنحاول الهروبَ من ملاحقة الزمن ودولاب العُمر، فنخلع سراً ثياب الكبار، ونمسح من صورنا وقارهم المصطنع، وسمتهم المتكلف، ونَركض خلف فراشة الحقل، ونضحك بلا سببٍ ضحكات لم يكدر صفوها التفكير بالغد وهموم عالم الكبار الكئيب.
أما التنفيس عن الذات فهو سبب مهم للكتابة والنشر لا يمكن إغفاله، حيث يمكن أن تعين صاحبها على مواجهة مصاعب الحياة، فقد يعجز الإنسان عن إيجاد من يستمع إليه ويبثه شكواه، فلا يجد أمامه سوى القلم يكلمه والورقة يشكو إليها!
وعلى كل حال فإن البحث عن أسباب الكتابة والنشر يطرح مسألة مهمة بشكل عام، ترتكز على الوعي بضرورة وجود النقد الحقيقي الذي يستهدف بيئة الكتابة بكل أركانها: المبدع والمتلقي والناقد، وهي قضية تمتاز بمعاصرتها وحضورها القوي في ثقافتنا العربية.
الكتابة متنفسًا وميداناً فسيحًا
وائل القاسم: حين نقول: «إنسان»، فإننا نقصد هذا الكائن الذي تجتمع في تعريفه ناحيتان، الناحية الطبيعية البيولوجية التي يشترك الإنسان من خلالها مع بقية الكائنات الحية، والناحية الثقافية التي تُميّز الإنسانَ عن غيره من الكائنات. وكما أن المعطى الأول البيولوجي يحتاج إلى إشباع بالطعام والشراب وتلبية لكافة الاحتياجات الأخرى كالنوم والعلاقة الجنسية وغير ذلك؛ فإن الناحية الثقافية في الإنسان تحتاج هي الأخرى إلى إشباع. وهذا الإشباع يختلف باختلاف الناس وقدراتهم ومواهبهم ومؤهلاتهم ومهاراتهم المتعددة.
وصاحب القلم يجد في موهبته أو قدرته على الكتابة متنفسًا وميداناً فسيحًا يستطيع من خلاله إشباع شيء من حاجاته الثقافية والمعنوية النفسية، فبالقلم يستطيع الكاتب المُجيد الملم بما يكتب عنه، أن يصل إلى شرائح واسعة من الناس، فيتفاعل معهم ويتفاعلون مع كتاباته، وبالتالي يُشبع هذا الإنسان بقلمه الحاجات المرتبطة بالشق المتعلق بالمعطى الثقافي في تعريف كلمة (إنسان).
كما أن الأمر لا يتوقف هنا، أو بعبارة أخرى: ليس محصورًا في هذا الجانب، ولا مقصورًا على إشباع الحاجات الثقافية والمعنوية، بل يمتد ليشمل الناحية الأخرى الأولى السابقة، أعني المعطى الطبيعي البيولوجي عند تعريفنا للإنسان، فالقلم يجلب بعض المال في أحيان كثيرة، من خلال بيع المؤلفات مثلاً أو استلام المكافآت التي تقدمها الصحف والمجلات لكتابها، فهذه المبالغ المتحصل عليها عن طريق القلم مهما تعددت طرق ذلك التحصيل المشروع، تسهم في توفير بعض الاحتياجات التي لا يمكن أن يعيش الإنسان دونها، كالسلع والمواد الغذائية المتعددة، من مختلف أشكال المأكولات والمشروبات.
وأخيراً الأسئلة الكبرى لا تقف عند حدود الإجابة، بل توغل في العمق، ويظل الفعل الأجمل هو أن نتشارك ونبحث ونفكر ونكتب وننشر، سنتعثر بإجابات حتماً وستولد أمامنا الكثير والكثير من الأسئلة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.