الشتاء يحل أرصادياً بعد 3 أيام    عامان للتجربة.. 8 شروط للتعيين في وظائف «معلم ممارس» و«مساعد معلم»    الأسهم الأوروبية تغلق على تراجع    السعودية وروسيا والعراق يناقشون الحفاظ على استقرار سوق البترول    وصول الطائرة الإغاثية ال24 إلى بيروت    التعاون والخالدية.. «صراع صدارة»    الملك يتلقى دعوة أمير الكويت لحضور القمة الخليجية    الهلال يتعادل إيجابياً مع السد ويتأهل لثمن نهائي "نخبة آسيا"    في دوري يلو .. تعادل نيوم والباطن سلبياً    أمير تبوك: نقلة حضارية تشهدها المنطقة من خلال مشاريع رؤية 2030    الفالح: المستثمرون الأجانب يتوافدون إلى «نيوم»    أمير الرياض يطلع على جهود "العناية بالمكتبات الخاصة"    خادم الحرمين الشريفين يدعو إلى إقامة صلاة الاستسقاء    «التعليم»: 7 % من الطلاب حققوا أداء عالياً في الاختبارات الوطنية    أربعة آلاف مستفيد من حملة «شريط الأمل»    «فقرة الساحر» تجمع الأصدقاء بينهم أسماء جلال    7 مفاتيح لعافيتك موجودة في فيتامين D.. استغلها    الزلفي في مواجهة أبها.. وأحد يلتقي العين.. والبكيرية أمام العربي    اكتشاف كوكب عملاق خارج النظام الشمسي    «شتاء المدينة».. رحلات ميدانية وتجارب ثقافية    مشاعر فياضة لقاصدي البيت العتيق    أنشيلوتي: الإصابات تمثل فرصة لنصبح أفضل    هنآ رئيس الأوروغواي الشرقية.. خادم الحرمين الشريفين وولي العهد يعزيان القيادة الكويتية    الرياض الجميلة الصديقة    كيف تتعاملين مع مخاوف طفلك من المدرسة؟    حدث تاريخي للمرة الأولى في المملكة…. جدة تستضيف مزاد الدوري الهندي للكريكيت    بايدن: إسرائيل ولبنان وافقتا على اتفاق وقف النار    قمة مجلس التعاون ال45 بالكويت.. تأكيد لوحدة الصَّف والكلمة    7 آلاف مجزرة إسرائيلية بحق العائلات في غزة    شركة ترفض تعيين موظفين بسبب أبراجهم الفلكية    الدفاع المدني: استمرار هطول الأمطار الرعدية على معظم مناطق المملكة    كثفوا توعية المواطن بمميزاته وفرصه    «هاتف» للتخلص من إدمان مواقع التواصل    حوادث الطائرات    سيتي سكيب.. ميلاد هوية عمرانية    المملكة وتعزيز أمنها البحري    معاطف من حُب    الدكتور عصام خوقير.. العبارة الساخرة والنقد الممتع    جذوة من نار    لا فاز الأهلي أنتشي..!    مبدعون.. مبتكرون    هؤلاء هم المرجفون    ملتقى الميزانية.. الدروس المستفادة للمواطن والمسؤول !    اكتشاف علاج جديد للسمنة    السعودية رائدة فصل التوائم عالمياً    خادم الحرمين الشريفين يدعو إلى إقامة صلاة الاستسقاء الخميس المقبل    مناقشة معوقات مشروع الصرف الصحي وخطر الأودية في صبيا    «السلمان» يستقبل قائد العمليات المشتركة بدولة الإمارات    أهمية الدور المناط بالمحافظين في نقل الصورة التي يشعر بها المواطن    المؤتمر الدولي للتوائم الملتصقة يناقش تحديات إعادة ترميم الأعضاء وتغطية الجروح    مركز صحي سهل تنومة يُقيم فعالية "الأسبوع الخليجي للسكري"    "سلمان للإغاثة" يوقع مذكرة تفاهم مع مؤسسة الأمير محمد بن فهد للتنمية الإنسانية    حقوق المرأة في المملكة تؤكدها الشريعة الإسلامية ويحفظها النظام    استمرار انخفاض درجات الحرارة في 4 مناطق    الكرامة الوطنية.. استراتيجيات الرد على الإساءات    محمد بن راشد الخثلان ورسالته الأخيرة    زاروا المسجد النبوي ووصلوا إلى مكة المكرمة.. ضيوف برنامج خادم الحرمين يشكرون القيادة    نوافذ للحياة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



القطيعة مع التراث عطَّلت حداثة الشعر العربي
نشر في عكاظ يوم 17 - 10 - 2015

ليس قاسم حداد سليل «طرفة ابن الوردة» شاعرا فقط، بل إنسان مشبع بالروح الفطرية الأولى للإنسان، هادئ حد السكون في ظاهره وصاخب داخله بعشق الفن والحياة والعائلة التي يعدها حضنا حاميا من الضياع والجنون. لا يحب الحديث عن تجربته مع السجن كونه غير مهجوس بدور البطولة، ويعترف بفضل زوجته «أم طفول» على نجاحاته وسكينته وحضوره. لا يتبرم من الذهاب إلى المطبخ، (مولع بالطبخ) ويحب تحمل عبء ورشة العائلة بمفرده، لا يتبرم من الأيام التي أحزنته هناك وأسعدته هنا، ومنحته تعويضا في تجربته خلال منح التفرغ من مؤسسات ثقافية ألمانية. ليكتشف حجم المسافة بين مؤسسات ترى المثقف جديرا بالحياة، وبين أخرى تراه شبهة مستدامة. ولا يعتقد بمحو الدم بدم آخر.
هنا حديث مع صاحب «البشارة»، نضعه بين أيديكم كما هو بكامل عفويته:
ماذا يعني لك أن تحتفل القبيلة بمولد شاعر؟
هذه المقولة مرت بنا مبكرا، رجاء أن تكون حقيقة تاريخية. فاحتفال القبيلة بمولد أو نبوغ شاعر موقف تقدمي في سياق الحضارة. لكن العرب كانت ترى الشاعر بمثابة وزير إعلام يدافع وينافح عنها بكل أخطائها وخطاياها، ويتحول إلى موظف عند القبيلة معجبا بجرائمها، محاصرا بشروطها، ليس له إلا الامتثال لموقف القبيلة الرسمي وإلا وضعوه في خانة التمرد والتهميش. ولا تزال نظرة السلطة العربية للأديب إما موظفا عليه الالتزام بكل شروط السلطة، أو منفيا ومشردا ومنبوذا، يستحسن قتله، (طرفة بن العبد مثلا). وهذه إشكالية تاريخية، فلو أن احتفال القبيلة بالشاعر حرا دون قيود، لكان في ذلك حكمة. لكنهم حتى الآن نراهم يحتفلون بالشاعر بعد موته، يقيمون عنه المهرجانات ويسمون باسمه الجوائز، ربما فرحين بأنه مات. دعك من الكلام الزائف الذي يدبجون به زينتهم، فهم لا يدركون أن الشاعر كائن مستقل مثل طائر، ففي حياته كانوا يقصفون جناحه ريشة ريشة.
بأي معنى الاستقلالية هنا؟
بمعنى أن الشاعر مرآة ناقدة، وله مواقفه الخاصة دون أية وصاية من أي جهة كانت. مستقل بفنه له مساحة التعبير عن وجهة نظره بحرية. ماذا نفعل بمزاعم أننا ذاهبون للمستقبل، فيما نتشبث بشروط الماضي، تلك إشكالية ثانية. وهذا غير مقبول في القرن الواحد والعشرين. فالذهاب للمستقبل لا يكون إلا بشروط المستقبل، بصرف النظر عما يطلق عليه البعض (الثوابت). فالمبدع ناقد للواقع لا مثبتا له.
من أين اكتسبت الشعرية، حسا ونصا؟
الشاعر العربي مجموعة من الحساسيات المختلفة، تكاملت فيه قراءات التراث الإنساني الذي يصقل التجربة، وربما لكوني ولدت ونشأت في أسرة بسيطة تعمل في الغوص وبيئة الخليج الفقيرة ولها علاقة حياتية بالبحر، تشكلت لدي رؤى فنية مبكرة حيث كانت طفولتي بكائيات ونصوص العزائيات الحسينية الحزينة، بعد ذلك اعتنى بموهبتي معلمي «عبدالحميد المحادين» الذي درسني اللغة العربية في مدرسة الهداية بالمحرق، ثم عملت لاحقا في المكتبة العامة، وأكاد أقول إني قرأت هناك في كل حقول المعرفة، وكان التراث الإنساني رافدي الأول، حيث صارت علاقتي بالتراث العربي حميمة جدا.
مع أنك شاعر حداثي؟
هذا طبيعي، فأنا ضد مقولة (القطيعة مع التراث). الشاعر دائما بحاجة للجذور والأجنحة. التراث جذور والحداثة أجنحة، وتراثنا العربي مليء بالطاقة الخلاقة لرسم طرق المستقبل إذا نحن تعاملنا مع التراث بمفاهيم وصيغ حرة. أعتقد بأن فكرة القطيعة مع التراث قد عطلت مشروع الحداثة الأدبية في التجربة العربية، أو عوقته على أقل تقدير. وحرمت العديد من المواهب من معين لا غنى عنه، بسبب الفهم الخاطئ لهذه الفكرة. أرى بأن شعار القطيعة مع التراث غير منطقي وغير واقعي، وأخشى أنه جنى على مشروع الحداثة.
كأنك مع التسليم بالتراث؟
ليس الأمر مع أو ضد. إنها الثقافة الإنسانية التي ليس بوسع المرء الزعم بتفاديها. التراث يصبح فعلا تقدميا عبر موقف نقدي حر، لا يمكن أن نسلم بالتراث كجثة ونأخذ به كطوطم، ولا يمكن أن نهجره كعدو. لقد اكتسب التراث الإنساني من التراث العربي الشيء الكثير، من شرفة الجذر الإنساني. فالإبداع عموما لا غنى له عن التراث ولا عن جمرته المتوهجة. فأنت لا توقد شرارة من رماد، ولن يمكنك التمسك بالهواء لأنك بحاجة إلى أرض حية. التراث أرضنا وبئرنا الأولى، على أن نفتح معه وفيه نوافذ الحوار والتساؤل.
هل اخترت الشعر أم اختارك؟
هذا السؤال بالغ الصعوبة، لا أستطيع الإجابة عليه. وربما طرحه بهذه الصيغة سيكون مربكا فعلا، أو هو غير عملي أيضا.
هناك عوامل مركبة ومعقدة يستقبلها الإنسان ويعيشها بعفوية وبساطة. فأحيانا ينشأ الشاعر في أسرة تحب الأدب وتشجع القراءة، فيساعده ذلك على مصادفة الشعر في بداية أو منتصف الطريق.
بالنسبة لي من خلال القراءة والأصدقاء تعرفت على الأدب. كما أنني كنت محظوظا بمدرسين في المرحلة الابتدائية التفتوا مبكرا لما لمسوه من موهبة وعشق للقراءة والكتابة ورغبة التعبير عن النفس والدعوة للحرية. كل تلك الظروف ساهمت في وعي الطريق إلى الشعر. لكن الحق أنه يتعذر إعطاء إجابة قطعية حول أينا اختار الآخر، فليس ثمة أسبقية في الصداقة الكونية.
ذهبت إلى فضاء النضال مبكرا، ماذا أضفت له وما أضاف لك؟
كان النضال رافدا مهما في تجربتي، حياة وأدبا. فمن النضال وعيت فكرة تعزيز قيم الحرية والعدالة والجمال والصدق والمساواة، وساعدني النضال أيضا على التمسك بموهبة الكتابة واكتشاف ضرورة حرية المبدع، وتعلمت أنه لا يمكن أن يكون المناضل فنانا حين يخضع أو يتعصب لفكرة سياسية أو حزبية. مبكرا تمردت على تلك القيود، وكثيرا ما قلت للرفاق عن الفرق الجوهري بين وفرة المناضل السياسي وندرة الأدباء المبدعين. في تجربتي نجحت في التمييز، دون الفصل، بينهما، ولم أمتثل فنيا لشروط الحزب والنضال، فقد وضعت حدا صارما بينهما، وهذا ما يجعلني دائما أشفق على من يتعصب من الأدباء لحزب أو نظام أو فكرة سياسية، وأرقبه وهو يفقد موهبته وطبيعته الفنية.
أما ماذا أضفت للنضال، فأظن أنني لم أضف للنضال شيئا، على العكس ربما أكون قد فشلت حد الهزيمة في نضالي السياسي كإنسان، وإن بقيت فكرة الحرية تتبلور وتتجلى في سياقات أخرى كشاعر. إن الفكرة الجيدة تدافع عن نفسها وليست بحاجة إلى أبواق.
تتحدث عن الحرية بوصفها شرطا للإبداع، ألا يمكن أن تتحول إلى قيد؟
الحرية ضرورية للحالة الفنية لا للحياة السياسية فقط، وأرى أن الحرية قيمة كونية وأزلية. وإذا أنت استطعت التفريق بين القيم والوسائل، تسنى لك تفادي ذلك كقيود. القيم جوهرية، غير أن الوسائل متحولة، وتتوقف على وعيك لحيويتها.
الوسائل وسائط، يمكن أن توظف إيجابيا كما يمكن أن توظف سلبيا، السيارة مثلا، قد توصلك لغايتك بسلام، وقد تذهب بك إلى قاع البحر. وأنت المسؤول كونك من يقودها. وهنا يكون شرط الثقافة والمعرفة.
هل يمكن القول إن نص قاسم حداد خال من الأدلجة؟
ليست المشكلة في الأيدولوجيا. فهي رافد معرفي مهم، ويمكن مصادفته في كل مراحل الإنسان، وظني أن المثقف والأديب معنيان بهذا الرافد الحيوي، شريطة ألا يكون (دوغما). المشكلة هي أن تتحول الأيدلوجيا إلى خطاب فج في العمل الأدبي. وتستطيع رصد هذه المسألة في السجال (لئلا أقول الصراع) المبكر في كتبي الأولى (البشارة «1970. وخروج رأس الحسين من المدن الخائنة 1972»).
ربما وعيت الأمر وقتها، ونجحت تقريبا في التخلص من سلطة الخطاب السياسي. أظن بأن الحرية الفكرية شرط لازم للحرية الاجتماعية.
كيف ترى موقف العربي الأول من القرآن الكريم والرد عليهم، (وما هو بقول شاعر)؟
ظني أن القرآن جاء بدرجة عالية من البلاغة لكي يبز الشعر السابق للإسلام. وأحب دائما أن أرى في موقف العرب آنذاك من القرآن بمثابة الانتباهة المبكرة لإمكانية خروج الشعر عن القصيدة. فقول العرب عن النبي بأنه شاعر وساحر ومجنون، (وهي صفات جوهرية للشاعر)، رصد واضح بأن البلاغة (التي من الشعرية الآن) هي الشرط الأول للقول الأدبي والشعري. وعرب ذلك الوقت، بهذه التهم المجردة هم أول من طرح نقدا تاريخيا للرسالة المحمدية بوعي حضاري اختلط بالسياسة والمصالح القبلية في تلك اللحظة. وفي ذلك الموقف أيضا أرى كم أن المجتمع العربي لحظتها على درجة واضحة من الثقافة والخبرة الأدبية والأخلاقية أيضا، لكي أشير إلى أن السجال وقتها كان يصدر عن معرفة ما لدى أطراف السجال.
الكتابة ضرورة أم ترف؟
منذ اللحظة الأولى على الكاتب أن يعرف جواب هذا السؤال. وما إذا كان يكتب ترفا أم هي حاجة روحية ضرورية بلا غايات. الأمر مرتبط بالرؤية وبالجمالية والإنسانية العميقة التي تسكن الكاتب. فهي مسؤولية الكائن في الكون. وكلما وعينا الحس الإنساني الحر وقبلنا به في كل صورة، ترجحت الكتابة كضرورة.
علاقتك باللغة تثير الكثير من الأسئلة، ومنها من أين تغترف كل هذه الفتنة؟
كلما عشقت اللغة أكثر أعطتك أكثر، كما الحبيبة، وأنا أحب من يحترم اللغة التي يكتب بها. ولغتنا العربية تتميز بالعبقرية ومكتنزة بالجماليات، وهي مصدر إثراء ودهشة وبلاغة، فاللغة مسؤولية، ومن يستخف بها تستخف به ومن ثم يستخف به القارئ. وها أنا لا أزال أكتشفها كل يوم وفي كل كتابة ونص.
كيف تصل لقارئك؟
عندما أكتب بحب يصل ما أكتبه للقارئ الذي يقرأني بحب، ومن لم يستمتع بما يكتب لن يستمتع قارئه بما كتبه.
ألمس كثيرا من الحس الصوفي والرمزية؟
لي علاقة وطيدة بالتراث وقد استغرقت في قراءة كل ما يتصل بالصوفية والفلسفة بوصفهما الرؤيوي والنصي. أحب اللغة عند الصوفية فهي مثل بلورة المشكاة، إلا أنهم ليسوا أسلافا مقدسين. أما الرمزية فأنا مع تعدد القراءات وانفتاح المعاني ورحابة الآفاق لمخيلة للقارئ من خلال استدراجه بشروط جمالية. لا أقدم معنى واحدا لقصيدتي ولا أفترض الجهل في القارئ، ولم أتحول يوما إلى سلطة تصادر حرية رأي القارئ ووعيه. أتمنى أن تكون معاني قصيدتي بعدد قرائها كما قال شاعر فرنسي. لا أرى نفسي أستاذا معلما للقارئ. لا عبرة بنص لا يحفزك على قراءته أكثر من مرة. ولا يمكن للفنان التنازل عن شرطه الفني.
كيف ترى إلى من يقول إن النص الحديث بدأ مع النفري وابن عربي وجلال الدين الرومي بوصفهم آباء الحداثة؟
لكن أيضاً، ومن هم آباء النفري وابن عربي والرومي؟ أخشى أن من طبيعة الأديب العربي البحث عن أسلاف لصنيعه. وربما نصادف هذا في حقول أخرى، وهذا ناتج عن عقلية مركزية تتطلب تزكية الجديد بالقديم، وكأنما في هذا بحث عن مشروعية سابقة للتجربة الجديدة. (لكي نكون خير خلف لخير سلف). وبما أن الإبداع يظل إبداعا عبر الوقت والمكان، فإن حق التجديد هو من الحريات الفطرية لدى الإنسان، دون أن يكون القديم قانونا أزليا ثابتا مقدسا. هذه هي الحقيقة الجوهرية في الإبداع الإنساني، وإلا ما هو مفهوم التطور وتحولات الحياة؟.
هل لك انحيازات لفن بعينه؟
هذا ليس من طبيعة الفن. أنا مع تقاطع الفنون وتكاملها، خصوصا في عصر تطورت فيه وسائط وأساليب التعبير والتوصيل، مما يفتح الآفق رحبا أما التجارب الجديدة في شتى أشكال التعبير الفنية. ولو أن السرياليين أدركوا هذا العصر، بوسائطه المستحدثة، لقدموا ما هو أكثر فتنة وجمالا. وظني أن ما يستحدث من وسائط الاتصال هو إسهام نوعي لوسائل التعبير.
ماذا عن تجربتك مع أمين صالح في الجواشن؟
إنها أجمل تجاربنا الأدبية التي أعادت صياغتي على الإطلاق. لقد كانت على درجة من المتعة والفائدة، بحيث يمكنني القول إننا كنا نصوغ ذواتنا الجديدة بحرية كاملة. كل منا جاء من عالمه وتجربته الخاصة، أمين جاء من تصعيد جمالي للسرد يضاهي الشعر، وجئت من شغف باحث عن أفق جديد للكتابة الشعرية. لنجد نفسينا نكتشف تجربة ثالثة في أفقِ ما نصنع. كانت تجربة ماتعة، إذ وجدنا أفقا جديدا للسرد الشعري وللشعرية في السرد.
كم يفصل بين تجربة وتجربة من الوقت؟
تلقائيا أحرص على المسافة الزمنية التي تحقق مسافة فنية بين النص والآخر.
وبرغم أنني أشعر بعد انتهاء أي تجربة بهوة أو هاوية من الفراغ الكوني، إلا أنني أعمل على ملئها بالقراءة والمتابعة والمشاهدة والتأمل والحوار، لكي يتسنى لي، حين أعود ثانية إلى الكتابة، تفادي تكرار نفسي بأي شكل من الأشكال، أحب أن أكون شخصا آخر في النص التالي. وأنصح نفسي دائما عند العودة لمسودات الكتابة الجديدة باعتماد الحذف أكثر من التعديل أو الإضافة، فبعد اكتشاف المنجم الجديد يكون الفحم كثيرا لكن الجوهر نادر.
كيف تتعامل مع الرؤية النقدية؟
أستطيع اكتشاف الحب في ما يكتبه النقاد. حتى عند من يسجل ملاحظاته العابرة، ويمكنني التمييز بين الحب والمجاملة. أحترم كل كلمة يكتبها الآخرون بصدق. أفترض حسن نية الكاتب لكي أرى الرغبة في القراءة، فالنقاد قراء متمهلون. وظني أن النقد، كما القراءة، رغبة في كسب أصدقاء وليس لخسرانهم.
لماذا غابت بعض الأيديولوجيات أو ضعفت؟
ذلك هو السر في مسألة (خضرة الشجرة ورمادية النظرية). فمن لا يعبأ بهذه المفارقة سيكون عرضة للعطب. وإذا أردنا أمثلة كارثية على ذلك، يمكننا القول إن من بين أسباب كثيرة لانهيار سوفياتيي القرن الماضي، كونهم لم يؤمنوا بحرية النقد، وخصوصا لم يصغوا للنقد الأوروبي المبكر لنظريتهم في الفكر والتطبيق الاشتراكي. لقد كانت الدوغما سيدة الموقف. وسوف ينطبق هذا على كل تجربة تصدر عن وهم الحصانة والكمال. انظر ماذا يحدث للتعصب الديني.
أين تكمن مشكلة الإسلام السياسي وظاهرة الحركات الإسلامية؟
ليست المشكلة في الإسلام، فهو ايديولوجية فحسب، يبقى أنه كيف يجري النظر والعمل في هذا الإسلام. وعلينا التوقف أمام هذا العنف الذي يعيدنا بغتة للكهف والغابة معا في لحظة القرن الواحد والعشرين. ثمة من يسعى إلى السلطة بأكثر السبل وحشية بعيدا عن مفهوم الأديان قاطبة، بوصفها شأنا شخصيا بين الإنسان وربه.
وهو أمر سياسي بالدرجة الأولى، وليس من الحكمة أن يجري التغافل عن السبب بالتصدي للنتائج. نحن في عالم يفقد الإنسان فيه الأمل بشكل يومي ساحق. وغياب العدالة والحرمان من الحريات والحقوق الأصلية هو السبب القديم في كل هذه الانهيارات والانفجارات والانحطاط الحضاري الذي نتدهور فيه منذ سنوات. والذين يكافحون هذه الظواهر العنيفة بعنف آخر، لا يختلفون عن غيرهم في العنف. فالعنف ليس حلا، لأننا لا نستطيع أن نمحو الدم بالدم. ففي الذهاب إلى معالجة عنف الحركات الإسلامية بالعنف العربي والدولي هو خطأ كوني وتاريخي كبير، وربما كان أكثر من خطيئة على جانبين:
الأول، أننا سنكون على شاكلة الذين يسعون إلى السلطة بالعنف، وهذا ما يجعلنا صورة مكررة لهم، في صورة المدافع عن السلطة بالعنف، فلا يعود الفرق كثيرا بين العنف هنا وهناك.
ثانيا، الذين يزعمون العنف لمكافحة العنف يمارسون، بوعي كامل وعنيف أيضا، تغييبا سياسيا للأسباب بإلهائنا في هيلمان النتائج، وبهذا فإنهم لا يعملون على تحريك الواقع نحو الحل الأنفع لمشاكل مجتمعاتنا. فثمة بين العرب من بخلق الكذبة ويصدقها. لم يعد تنطلي ألعوبة تحويل الإسلام السياسي إلى سلطة.
وأخشى أنهم يعيدون إنتاج حروب على شاكلة (داحس والغبراء)، لكي نتخبط في دماء كثيرة بلا نهاية، متوهمين أن المشكلة تنحصر في خلاف على سباق الخيل، فيما هو صراع قبائلي على السلطة والمصالح. علينا أن نتأكد مما يجري حولنا، فهو علينا.
متى تتصالح مع المشاريع السياسية؟
في مثل واقعنا ليس ثمة مشاريع فوق مستوى الشبهة. فمادامت هي مشاريع تصاغ في ظلام غرف المؤسسات، فهي مؤامرات قيد التنفيذ، يراد لنا الإعجاب بها وتبجيلها والامتثال لها، ومن حقي أن أكون جزء من المشروع، مشاركا في صياغته، متمتعا بحق نقده، وعندما يتحقق شرط نقضه، وتلغى التبعية والإقطاع والرق والوأد بكل صوره وتطلق العدالة الإنسانية، ساعتها يمكننا الحديث عن المشاريع الاجتماعية والسياسية في وضح النهار بصدق وبلا نفاق.
ما أثر منحة الأكاديمية الألمانية عليك؟
في الواقع كانت عدة منح وإقامات للتفرغ الأدبي من مؤسسات ثقافية ألمانية في مدن مختلفة. وكانت منحا كريمة وحضارية، وحرة، تفضح لنا بؤس المثقف في بيئته العربية، فنظرة الغرب للمثقف إيجابية ومحترمة ونابعة عن وعي بدوره في الحياة. فيما الأديب العربي يرسخ في ظل مؤسسات عاجزة تنتمي للقرون الوسطى.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.