بعد انقضاء اكثر من ستين سنة شغلتها مفاوضات مضنية استهدفت تطبيق القرارات الدولية المتعلقة بمصير الشعب الفلسطيني، برزت في الأفق مشكلتان عصيتان على كل حل: الاولى، مشكلة تهويد القدسالشرقية مع كل ما تعنيه هذه المدينة التاريخية المقدسة لدى ملايين المسيحيين والمسلمين واليهود في العالم. والثانية، مشكلة مستقبل اكثر من ثلاثة ملايين لاجئ فلسطيني موزعين على مخيمات الاردن وسورية ولبنان. وهذا يعني ان هاتين المشكلتين، بأبعادهما العالمية والاقليمية، ستشهدان نزاعاً سياسياً مختلفاً يمكن ان يؤدي الى حرب طويلة اذا فشلت المحادثات التي سيفتتحها الرئيس باراك اوباما، في واشنطن يوم الاربعاء المقبل اول ايلول ? سبتمبر. صباح الخميس المقبل تبدأ جلسات المفاوضات المباشرة وسط أجواء تشكيك عبّر رئيس الوفدين عن تخوفهما من انهيارها السريع. خصوصاً بعدما طرح كبير المفاوضين الاسرائيليين اسحق مولخو أمام كبير المفاوضين الفلسطينيين الدكتور صائب عريقات، شروطه الثلاثة كمرتكزات لجدول الأعمال. قال إنها تبدأ بالاتفاق على الترتيبات الامنية المتعلقة بدولة ستكون لديها حدود نهائية. وهذا يقتضي من الفريقين رسم حد فاصل يأخذ في الاعتبار الضرورات الامنية والتعقيدات الديموغرافية. كما يأخذ في الاعتبار احتمال استعادة نصف الشعب الفلسطيني تقريباً الموجود في قطاع غزة. ومع انها قطعة جغرافية معزولة، إلا انها المنفذ الوحيد للدولة الفلسطينية على البحر. المرتكز الثاني من المفاوضات يشدد على ضرورة اعتراف الفلسطينيين بإسرائيل وطناً خاصاً ونهائياً لليهود. ومثل هذا الاعتراف يوكل مسؤولية عودة اللاجئين الى الدولة الفلسطينية بحيث تستوعبهم خلال فترة معينة وعلى دفعات. وبحسب تعهد وزير الدفاع ايهود باراك، فقد طالب الادارة الاميركية بتخصيص خمسين بليون دولار تجمع من طريق الاممالمتحدة من الولاياتالمتحدة والاتحاد الاوروبي ودول مجلس التعاون الخليجي. ويمثل هذا المبلغ اللبنة لتأسيس بنية تحتية وتأمين استقلال اقتصادي لمشروع إسكان مليوني لاجئ خلال مدة عشر سنوات. المرتكز الثالث يعتبر من اهم المرتكزت وأكثرها ارتباطاً بحجم اسرائيل الجغرافي. ففي كتابه"الجدار الحديدي"يظهر الكاتب اليهودي البريطاني افي شلاييم، إصرار المفاوض الاسرائيلي على نسف المحادثات كلما اقترب الحديث عن الحدود النهائية لدولة اسرائيل. والسبب ان مؤسسي الدولة العبرية اعتمدوا اسلوب تعطيل المفاوضات لاعتقادهم بأن الوقت يعمل لمصلحتهم ومصلحة نظرية توسيع مساحة اسرائيل بما يتناقض ونصوص صيغة القرار 242. واوصى الرئيس اوباما بضرورة تحقيق تقدم ملحوظ قبل انقضاء المدة المقررة لتجميد مشاريع الاستيطان والتي تنتهي آخر الشهر المقبل. صحيح ان نتانياهو لن يطلب علناً استئناف البناء داخل الكتل الاستيطانية... ولكن الصحيح ايضاً ان منافسيه الكثر بمن فيهم نائبه ووزير خارجيته افيغدور ليبرمان، سيرغمونه على تنفيذ وعوده. والثابت انه لم يتخل عن هذه الوعود بدليل ما كشف عنه الدكتور حسن خاطر، أمين عام الهيئة الاسلامية ? المسيحية لنصرة القدس. فقد اعلن في مؤتمر صحافي، عن بناء 218 كنيساً يهودياً داخل القدس منها 70 كنيساً داخل البلدة القديمة. وقال ان سلطات الاحتلال حريصة على تغيير الطابع الديني التاريخي، الى طابع غريب مفرغ من الدين والتاريخ. وحمّل الدكتور خاطر المجتمع الدولي ممثلاً باليونسكو ومنظمة المؤتمر الاسلامي والفاتيكان والامموالمتحدة، المسؤولية الكاملة عما تتعرض له القدس من تهويد ديني خطير. فور الاعلان عن موعد المفاوضات المباشرة، طلب نتانياهو من لافي ديختر، رئيس"الشاباك"السابق، ان يجري له تقويماً حول فرضية تقسيم القدس الى شرقية وغربية. وأعطت هذه الدراسة الحكومة الحجة الامنية كي تمنع فكرة التقسيم كما تطالب السلطة الفلسطينية ومن خلفها الدول العربية والاسلامية. تقول الدراسة: اولاً ? ينطلق مؤيدو التقسيم من فرضية خاطئة مفادها ان القدس الغربية كلها يهودية، وأن القدسالشرقية كلها عربية. لذلك يكون تقسيمهما سهلاً. وهذا ما اقترحه الرئيس كلينتون عام 2000، عندما طلب ان يكون كل حي يهودي تابعاً لدولة اسرائيل، في حين يكون كل حي فلسطيني تابعاً لدولة فلسطين. وعارض العسكريون ولادة مثل هذا الواقع المعقد لأن القدس اصبحت مثل رقعة الشطرنج، صعبة الحماية. ثانياً ? تزعم السلطة الفلسطينية ان تنفيذ الانسحابات داخل القدسالشرقية سيتم في اطار اتفاق سلام يمنع عودة سيناريو غزة. ولكن عقد اتفاق مرحلي مع السلطة الفلسطينية قبل الانتفاضة الثانية لم يمنع قناصو"بيت جالا"من ارهاب سكان"حي جيلو"الاسرائيلي. ثالثاً ? من المنطقي القول ان كل اتفاق سلام مع السلطة الفلسطينية سيثير اعتراض فريق كبير جداً من الشعب الفلسطيني، خصوصاً اذا كانت الاهداف قريبة ومتداخلة. ذلك ان قرية"شعفاط"لا تبعد اكثر من 300 متر عن التل الفرنسي، وأكثر من مئة متر عن"بسغات زئيف"حيث يسكن 42 ألف اسرائيلي. كذلك يستطيع سكان قرية العيسوي التي تبعد 75 متراً عن حرم الجامعة العبرية في جبل المشارف، السيطرة على المنطقة الاستراتيجية المطلة على شارع القدس في معالية ادوميم. هذه الامثلة وسواها تبناها المفاوض الاسرائيلي كي يرفض فكرة تقسيم القدس، لأسباب امنية. لذلك يمكن ان يعود البيت الابيض الى مشروع دنيس روس، المطالب بالقدس مدينة مفتوحة للديانات السماوية الثلاث. وفي دراسة قدمها رئيس قسم الخرائط خليل التوفكنجي، يؤكد ان حكومة نتانياهو صوتت على خطة ترمي الى رفع عدد اليهود في القدسالشرقية الى 88 في المئة خلال مدة لا تتعدى العشر سنوات. من هنا وصف خالد مشعل، رئيس المكتب السياسي ل"حماس"، المفاوضات المقبلة بأنها"مفاوضات تصفية... لا مفاوضات تسوية". منذ اقل من ثلاثة اسابيع، وقّع نتانياهو على نظام يقيد حرية الاطلاع على الارشيفات الحكومية. وتتناول المعلومات السرية هذه اعمال الطرد والتصفيات الجماعية والمجازر التي ارتكبت ضد الفلسطينيين قبل حرب 1948 وبعدها. اضافة الى عمليات"الموساد"ومعهد البحث البيولوجي ومفاعل ديمونا. وقد شنت صحيفة"هآرتس"هجوماً عنيفاً على قرار تأجيل فتح الارشيف الامني لمدة عشرين سنة اخرى، مطالبة الدولة بعدم الخوف من ماضيها، لأن من حق الشعب ان يعرف كيف قامت اسرائيل وما هي المخالفات التي ارتكبها المؤسسون اثناء خرق حقوق الانسان او ارتكاب اعمال إجرامية. ويقال في هذا السياق، ان نتانياهو علم بأن المفاوض الفلسطيني سيحمل معه ملفاً كاملاً عن المجازر التي ارتكبت بعد حرب 1948 بهدف تثبيت وجهة نظره في شأن قرار العودة او التعويض، اي القرار الذي يسعى المفاوض الاسرائيلي الى إلغائه بحجة ان اعلان الدولة يثبت حق الانتماء لكل فلسطيني. وفي الكتاب الذي اشرف على إعداده سليمان الشيخ، رئيس قسم الدراسات في المنظمة الفلسطينية لحقوق الانسان وعنوانه"الكتاب الاسود"، سجل كامل بكل المجازر التي اقترفها اليهود. ويزيد عددها على المئة. وفي هذا يقول الاستاذ ميشال اده في مقدمة هذه الوثيقة:"ان المجازر الاسرائيلية في القرن العشرين انما هي في حقيقة الامر تاريخ اسرائيل الحقيقي". بقي السؤال المتعلق بأهداف المفاوضات المباشرة، وما اذا كان من المفيد للسلطة الفلسطينية الاشتراك فيها تحت وطأة اللاءات الاسرائيلية الثلاث: لا للتنازل عن القدسالشرقية... لا لتطبيق قرار حق العودة والتعويض... لا للعودة الى حدود 1967. في نهاية الامر، ستفشل المفاوضات التي استخدمها الرئيس اوباما كمشجب يعلق عليه أخطاءه وأخطاء ادارة سلفه السابق في العراق وأفغانستان وباكستان.ربما يكون من السابق لأوانه توقع فشل المفاوضات قبل ان تبدأ. خصوصاً ان اسرائيل اعلنت انها لن تتنازل عن مكاسبها التي حولتها الى شبه حقوق مكتسبة. والربح الوحيد الذي يجنيه محمود عباس من وراء هذه المفاوضات، هو المزيد من الاقتناع بأن السلطة لن تربح غير التأكد من ان شرخها مع"حماس"سيزداد اتساعاً وعمقاً... * كاتب وصحافي لبناني