جمعتني دعوة عشاء كريمة من السفير التركي بالقاهرة مع الرئيس التركي عبد الله غل، والحقيقة أنني اندهشت من الطريقة التي يتعامل بها الأخير مع ضيوفه. فهو يتعامل بحميمية بالغة وتواضع جم وعقل يقظ وقلب مفتوح واستعداد تام لتقبل كل الآراء والرؤى. وبعيداً من حزمة الإجراءات والخطوات التي اتفق عليها الرئيسان المصري حسني مبارك مع نظيره التركي عبد الله غل من أجل تعزيز التعاون الاقتصادي والتجاري بين الدولتين، وبعيداً من تصريحات كلا الرجلين حول عدم وجود تناقض أو تنافس بين الدور المصري والدور التركي، سواء في القضايا الإقليمية أو في عملية السلام أو حتى على المستوى الاقتصادي، فإنني أردت أن أنتقل بالحديث مع غل إلى نقطة أخرى: اقتربت منه أثناء العشاء وسلمت عليه فقابلني بترحاب بالغ وابتسامة صافية، فقلت له بحماس وعفوية: لماذا لا يتم تشكيل مجلس مصري - تركي مشترك من أجل تغيير مسار عملية السلام ودفعها إلى الاتجاه الصحيح، أو بمعنى أدق لماذا لا تتعاون مصر وتركيا من أجل إيجاد حل عادل وشامل للقضية الفلسطينية وللصراع العربي - الإسرائيلي؟. وأكملت طرح وجهة نظري فقلت"إن مصر لديها من الخبرة السياسية والجغرافية والتاريخية بدهاليز الصراع وخباياه ودروبه ومنحنياته الكثير والكثير بحكم وجودها في قلب هذا المعترك منذ ما يزيد عن نصف قرن، وتركيا لديها ثقل إقليمي في آسيا وأوروبا ولديها علاقات ممتازة مع الأميركان، كما أنها ترتبط بعلاقات عسكرية وسياسية بإسرائيل على رغم حادث"أسطول الحرية"الذي أدى إلى حدوث توتر غير مسبوق في تاريخ العلاقات التركية - الإسرائيلية، ولكن بغض النظر عن هذا الحادث فإن تركيا يمكن أن تستغل هذه المزايا في التحالف مع مصر بهدف تحقيق التسوية على الأسس التي سبق و ذكرناها". وأضفت:"يمكن عمل لقاءات ومؤتمرات يشارك فيها خبراء من الجانبين من أجل تحقيق هذا الهدف ومن أجل وضع تصور مشترك للخروج من مأزق الوضع الراهن للتسوية في الشرق الأوسط". أنصت الرئيس التركي إلى ما قلته بكل هدوء واهتمام وانتظرت إجابته فوجدته يبتسم قائلاً:"إنها فكرة جيدة جداً ولدينا استعداد فوري لتنفيذها"، ونادى على كل من مستشاره السياسي فريدون سينرليوغلو والسفير التركي في القاهرة وطلب منهما الاتفاق معي على إجراء الترتيبات اللازمة لتنفيذ هذا الاقتراح. وعرضتُ الفكرة على رئيس المجلس المصري للعلاقات الخارجية السفير عبد الرؤوف الريدي فرحب بها فوراً وأعلن استعداد المجلس لتبنيها واستضافة فعالياتها. شكرتُ الرئيس التركي وعدت إلى المنزل لأفكر في ما الذي يمكن أن تفعله مصر وتركيا من أجل عملية السلام، فوجدت الكثير. فتركيا في ظل حكومة حزب"العدالة والتنمية"حققت خطوات هائلة في تصفير مشاكلها مع جيرانها وبدأت في العودة تدريجياً إلى دوائر نفوذها التاريخية في الشرق الأوسط، وهو ما أضاف إلى الدور التركي ثقلاً لم يكن موجوداً من قبل وذلك بفضل ذكاء وكاريزما قيادات الحزب نفسه وبسبب النجاح غير المسبوق الذي حققته حكومته على المستوى الاقتصادي، وهو الأمر الذي حقق قفزات هائلة للاقتصاد التركي ليصبح عاشر أقوى اقتصاد في العالم. هذه النجاحات المتتالية جعلت حزب العدالة محل ثقة المواطن التركي وهو ما مكن الحزب والحكومة من القيام بإصلاحات سياسية ودستورية تحد من هيمنة العسكريين على السلطة في تركيا. وتمنح حكومة العدالة والتنمية المزيد من القدرة على التحرك بحرية أكبر في دوائر خارجية لم يكن العسكر والأحزاب العلمانية غير معنيين بها، ولأن حزب العدالة وقياداته كانوا أذكياء ووسطيين في تعاملهم مع العلمانية ومبادئ أتاتورك على رغم جذورهم الإسلامية فقد وفر هذا الأمر غطاء شعبياً ودولياً لتحركاتهم وهو ما منع الجيش التركي من القيام بانقلاب ضد حكومة العدالة مثلما فعل مع حكومة الرفاه بقيادة نجم الدين أربكان. هذا الأمر برمته مكّن رجلاً ذكياً هو وزير الخارجية التركي أحمد داوود أوغلو من إعادة تخطيط وتقسيم الدور التركي في المنطقة، ما أدى إلى حضور قوي لتركيا في الملفات المهمة في الشرق الأوسط، وجعل الوساطة التركية في كثير من الملفات الإقليمية مقبولة ومرحباً بها، وتحديداً رغبتها في أن تلعب دور الوسيط في عملية السلام في الشرق الأوسط. فلقد سبق لحكومة أردوغان أن أعلنت نيتها ورغبتها في رعاية مفاوضات مباشرة بين سورية وإسرائيل ورحبت دمشق بهذا الأمر كما رحبت به إسرائيل. وبالفعل تمت بعض الخطوات على أرض الواقع في هذا الأمر، ولولا الحرب الإسرائيلية البربرية على غزة واستمرار جرائم اسرائيل غير الأخلاقية لتمكنت تركيا من إنجاز خطوات فعلية في ملف المفاوضات بين إسرائيل وسورية. ولأن مصر بحكم موقعها وموضعها طرف لا يمكن الاستغناء عنه في إتمام التسوية حتى وإن فتر هذا الدور في فترات معينة ونشط في فترات أخرى، حتى وإن قيل إن الدور المصري الإقليمي يتراجع ويتآكل لمصلحة قوى أخرى من بينها تركيا وإيران، وحتى وإن قيل إن السياسة الخارجية لمصر تعاني من حال تخبط وعدم قدرة على تحديد أولويات التحرك في الدوائر الخارجية. مهما قيل في هذا الأمر ومهما كانت صحة ما يقال إلا أن الزمان والمكان يفرضان على أي طرف يريد أن يلعب دوراً في الشرق الأوسط عموماً وفي عملية السلام بخاصة، أن يطرق الأبواب المصرية، وهذا لا يعني أن الدور المصري في كامل لياقته، بل على العكس فغالبية ما قيل عن ضعف وفتور وتراجع وبهتان هذا الدور صحيح، لكن الجغرافيا والتاريخ أحياناً يكون لهما كلام مختلف عن كلام الواقع السياسي. قلت لنفسي بما أن الطرفين المصري والتركي يمتلكان أوراقاً في هذا الملف فلماذا لا يتم تجميع هذه الأوراق من أجل تحقيق هدف نبيل وراق وهو تحقيق السلام في المنطقة؟ أعلم جيداً قبل أن يحاول أحد أن يخبرني غمزاً أو لمزاً أن العملية ليست بهذه البساطة، وأن هذا الأمر ليس مرهوناً بإرادة قوة واحدة وأن هناك قوى أخرى لها كلمتها في هذا الملف وعلى رأسها الولاياتالمتحدة التي يرى البعض أنها القوة الوحيدة في العالم التي تستطيع الضغط على إسرائيل وإجبارها على تقديم تنازلات تسمح ببدء مفاوضات جادة بين الفلسطينيين والإسرائيليين أو بين الإسرائيليين والسوريين. وقد يكمل البعض بأن أميركا لا تستطيع الضغط على إسرائيل إطلاقاً بسبب سيطرة اللوبي اليهودي وغيره من جماعات الضغط الصهيونية على مؤسسات صنع القرار في أميركا، وأن أكبر دليل على هذا حالة التفاؤل والآمال العريضة التي علقها العالم على أوباما في هذا الأمر وكانت النتيجة صفراً. هذا كله صحيح، وصحيح أيضاً أن التركيبة النفسية للساسة في إسرائيل حالياً لا تميل إطلاقاً إلى السلام وترى أن كل الأمور يمكن حلها بالقوة وبالحرب. ولكن بعيداً من هذا كله فإنني فقط أدعو إلى إحياء محور مهم في المنطقة يمكن أن يكون له دور رئيسي في عملية السلام ويمكن أن يكون لهذا المحور"المصري - التركي"دور في تغيير خريطة التوازنات والحسابات في عملية التسوية. وهذا كله يتوقف على وجود إرادة مشتركة لدى الساسة في تركيا ومصر للقيام بهذا الدور وإثبات أن مصير المنطقة يمكن أن تساهم دول المنطقة في تحديده وأنه لن يترك طوال الدهر لأميركا كي تحدد مساره. وإلى أن تتحقق الرغبة وتأتي الإرادة، فما المانع من عقد ندوات ومؤتمرات وحلقات نقاشية حول عملية التسوية بين خبراء مصريين وآخرين أتراك. * رئيسة لجنة العلاقات الخارجية في حزب الوفد المصري وأستاذة العلوم السياسية في الجامعة الأميركية في القاهرة.