هل تحل"القناة التلفزيونية الحزبية"محل"الصحيفة الحزبية"من حيث الدور السياسي - الإعلامي الذي تلعبه؟ وهل يستغني بعض الأحزاب والحركات السياسية عن"الصحيفة الورقية"كلياً أمام إغراء تأثير الفضائيات، وسعة المجال الذي تغطيه، وسرعة وسهولة وصول"الرسالة الإعلامية"من خلالها الى المشاهد... والى ما هنالك من إغراءات أخرى؟ قد يبدو السؤال مستغرباً للوهلة الأولى، إلا أنه يعبر عن حقيقة واقعة، ومن أراد التيقن من الأمر عليه ان يشاهد، ويستعيد ما قدمته الفضائيات العراقية المتحزبة منها والمناصرة لاتجاهات إيديولوجية محددة خلال الأشهر التي سبقت الانتخابات البرلمانية الأخيرة والأخرى التي أعقبتها ليتعرف الى"الدور"الذي لعبه عدد من القنوات في هذه القضية بالذات، وفي مستويات مختلفة توزعت بين الدعاية المباشرة، والكذب المفضوح. وتناوبت على العملية وجوه مستأجرة وأخرى مسخرة، لنجد على هذه القنوات ما يتمتع به بعض"الصحافة الحزبية الرخيصة"من اعتماد الدس على الخصوم، والعمل على تشويه المواقف والآراء، ورفع ما لا يرتفع، والنزول بما استقر تاريخياً.. الأمر الذي يشجع هذه الأحزاب والتكتلات على اعتماد"القنوات الفضائية"وسيلة اعلامية لها بدل الصحيفة التي أصبحت اليوم تعاني من مشكلات ليس أقلها ضيق الانتشار وعزوف القارئ عنها... ومع أن رجل الشارع العراقي أصبح اليوم أكثر تمييزاً بحكم ما تحمّل خلال السنوات الماضية من"أثقال الكذب"التي ألقاها"السياسيون الجدد"و"المستجدون في السياسة"على سمعه من وعود لم ير شيئاً منها على ارض الواقع، إلا أنه، مع ذلك، مصرّ على"المشاهدة". فإذا ما أتيح لك أن تستقل سيارة نقل عام الى مقصدك عند الصباح ستجد رجل الشارع هذا، وهو يحاول تبديد انعكاسات زحام الشوارع على نفسه، يتداول مع"زملائه العابرين"أحاديث عما يحدث على هذه"القنوات"بلغة يختلط فيها الجد بالهزل بالسخرية المرة مما يحصل... وهذا كله من خلال ما كان قد شاهد، ليتيقن السياسي صاحب القناة أن رسالته قد وصلت على نحو لاتستطيع الصحيفة فعله.. فيضاعف عمله وجهده و"ماله"على دعمها لتأكيد حضورها على نحو اكبر. أما مستوى"الرسالة"أو"أسلوب الخطاب"فذلك ما لايسأل عنه.. فالمهم عنده هو أن يصل.. أما أن تكون طريقة الوصول هذه قد تحققت من طريق تراشق التهم بلا حساب، أو بأدنى ما للكلام من مستويات التعبير، أو من طريق الكذب على المشاهد وتزييف الحقائق عليه، حتى ما كان منها تاريخياً، فذلك أمر لا يهم، إنما المهم هو"الإبلاغ". غير أن بعض الإعلاميين وعلماء الاجتماع المتابعين لمثل هذا الشأن يرى أن تأثير مثل هذا التوجه سيكون بالغ السلبية على مستقبل الفرد العراقي تحديداً، فالأساليب المتبعة من قبل هذه القنوات وهي غير خاضعة لأي نوع من أنواع القوانين التي تنظم عملها أو تحمي المشاهد من شأنها أن تشيع"ثقافة"مشوهة، قد تفعل فعلها في تشويه التفكير والانحراف به، فضلاً عما تحدثه من تشويهات في الذات المتلقية، وبما تتشيع من سلوك عام يقود، في الآخر، الى خراب النفوس والواقع معاً. ومن جانب آخر فإن"ثقافة"هذه الفضائيات تحقق كل ما يخشى الإنسان السوي وقوعه: من تمزيق المجتمع الى فرق وطوائف متنازعة ومتناحرة، الى إشاعة روح الإقصاء وواقع التهميش، وتحويل المجتمع من كونه"مجتمع مواطنة"الى مجتمع طوائف... كشفت الأشهر الماضية الكثير من هذا، سواء ما جاء منه ضمن تخطيط وبرمجة أو ما صدر بصورة"عفوية"حرّكتها حال التنازع على كراسي الحكم والسلطة. هذا كله لم تكن"الصحيفة الورقية"لتحقق شيئاً ذا بال منه على النحو الذي يتحقق به اليوم تلفزيونياً. فماذا يمكن أن نفعل إزاء هذا، بما يحمل من أخطار، ونحن في مثل هذه الفوضى الإعلامية التي أصبح"الدخول"إليها سهلاً وميسوراً، ليس لأطراف"العمليات السياسية"وحدها بل وللجهات الداعمة لها بعد أن وجدت في"الحالة"ما يمكن أن يساعدها كثيراً على بلوغ أهدافها؟ هذا السؤال، ومثله أسئلة اخرى، مطروحة اليوم على الساحة الإعلامية العراقية من موقف الإحساس بالخطر الذي تحمله، ليس على مستقبل ما يسمى"العملية السياسية"، وإنما على مستقبل البلد وإنسان هذا البلد... فإلى أي مصير يذهب؟ سؤال لا أظن أن"هيئة الإعلام العراقي"قد طرحته على نفسها.. وكيف لها أن تطرحه في مستوى التوصل الى حل وهي جزء من المشكلة؟ نشر في العدد: 17213 ت.م: 21-05-2010 ص: 26 ط: الرياض