لم تكن أحزاب وتيارات المعارضة العراقية السابقة تتوقع أن زمناً سيأتي سيكون فيه بمقدورها أن تعبر بحرية عن برامجها السياسية وعن أهدافها ومشاريعها. ففي عقود السبعينات والثمانينات والتسعينات كان صوتها مخنوقاً، لأن الداخل كان محجوزاً لمنابر النظام القمعي ولا أحد يتجرأ على التفوه بكلمة مخالفة، بينما كان الإعلام الذي يصدر في الخارج يعاني من الضائقة المالية، ومن التشتت والرحيل وقيود أنظمة الدول التي تتواجد فيها. مع سقوط النظام العراقي، والذي تزامن مع تطور تقنيات البث الفضائي، وجدت تلك التنظيمات الساحة الإعلامية العراقية فارغة، فحاولت التعويض عن عقود الحرمان، وراحت تتطلع بنهم لإنشاء صحف وإذاعات وفضائيات... فغرق العراق في بحر الكلمات والصور، وعرف هذا البلد، نشاطاً إعلامياً لا مثيل له في المنطقة العربية ذلك أن كبت السنوات شكل حافزاً نفسياً للبحث عن فسحة إعلامية. اليوم تبدو السماء العراقية مرصعة بفضائيات متنوعة:"الشرقية"،"العراقية"،"السومرية"،"الفرات"،"الزوراء"،"النهرين"،"عشتار"،"الحرية"،"البغدادية"،"الفيحاء"... وسواها، بل أن الولاياتالمتحدة، أنشأت فضائية"الحرة"باللغة العربية بغرض الترويج لسياساتها، ومحاولة كسب الرأي العام لتأييدها في خططها. إذاً بدا المشهد الإعلامي العراقي، في البداية،"بديلاً جذاباً"عن إعلام عراقي رسمي لم يعرف يوماً مكاناً للرأي الآخر، غير أن الأداء الإعلامي لهذه القنوات كشف عن عيوب وثغرات لا يمكن، معها، الإشادة بهذه التجربة التي أضافت أرقاماً إلى المحطات العربية، ولم تضف ما هو نوعي ومؤثر. فضائية"العراقية"التي أنشئت بتمويل من الدولة الفتية كي تكون الناطق الرسمي باسم الحكومة وقعت في مطب التودد لهذا المسؤول أو ذاك، وبقيت بعيدة من هموم الشارع العراقي. تقول كاتبة عراقية قادمة من بغداد:"إن المسؤول عن هذه القناة لا علاقة له بحقيقة المشهد الثقافي والإعلامي العراقي"، وتضيف:"آلية عمل"العراقية"تعتمد على التملق، ومسح الأكتاف لكل حكومة جديدة، فنراها يوماً إلى جانب أياد علاوي علمانية، ويوماً آخر مع الجعفري حزب الدعوة الإسلامي، أما اليوم فهي تتودد لعبدالعزيز الحكيم رئيس المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق والذي يمثل الكفة الأقوى والأرجح". قناة"الشرقية"التي يملكها سعد البزاز صاحب صحيفة"الزمان"، حاولت في البداية أن تتمسك بالمهنية، ومتجهة إلى الشارع العراقي، محاولة كسبه عبر تحقيقات وريبورتاجات ميدانية نالت الاستحسان، والواقع أن هذه الفضائية أثبتت أنها الأكثر تميزاً قياساً إلى الفضائيات الأخرى. غير أن المشهد السياسي المضطرب، في الآونة الأخيرة، أربك خطابها الإعلامي الذي لم يستطع الحفاظ على لغة إعلامية تكسب مشاعر العراقيين، فركزت على قسوة الواقع العراقي وكأنها تريد القول بأن الماضي كان افضل! لكن المقلق، والخطير في هذه الفورة الفضائية العراقية المتصاعدة هو ظهور فضائيات ذات بعد طائفي فاقع لا مجال فيه للريبة، مثل فضائية"الفيحاء"، وكذلك"الفرات". وفي مقابل ذلك ظهرت فضائية"الزوراء"لمشعان الجبوري. وثمة فضائيات أخرى يصعب تصنيفها طائفياً غير أن علامات استفهام كثيرة تدور حول الجهات التي تمولها! والمتابع لهذه الفضائيات يكشف، بلا عناء، عن مدى خضوع هذه القنوات للتيارات والأحزاب التي تمولها حتى أصبحت أشبه بتنظيم حزبي مصغر يعج بالشعارات، والخطابات والتقريرية المباشرة، وهذا ما يشير إليه المسرحي العراقي، المقيم في دمشق، باسم قهار إذ يرى أن"الأداء الإعلامي لهذه القنوات بعيد عن الحرفية، فهي مستلبة كلياً للمادة السياسية الأيديولوجية، لأن هذه الفضائيات أنشئت خصيصاً للترويج لتلك المادة. وهي متخلفة فنياً وإعلامياً وتقنياً ما عدا استثناءات قليلة مثل"الشرقية". ويضيف قهار أن"أولويات هذه القنوات ليست، بأي حال، تطوير الممارسة الإعلامية بل التعبير عن مواقف طائفية وحزبية، ناهيك بأن العاملين فيها يتم اختيارهم على أساس الموالاة لا الكفاءة". الفنان التشكيلي العراقي رياض نعمة المقيم كذلك في دمشق، لا يبتعد في تقويمه لدور هذه الفضائيات عن سابقه، فهو يصفها بپ"دكاكين ارتزاق"، قائلاً ان هؤلاء المرتزقة"استغلوا الحال العراقية بغرض الترويج لخطاب إعلامي سقيم وبائس"، والنقطة الوحيدة التي يراها نعمة إيجابية هي"أن أحداً لا يتابع برامج هذه الفضائيات باستثناء الموالين للجهة، الحزبية أو الدينية، صاحبة القناة"، وهو حمّل هذه القنوات جزءاً من مسؤولية التفجيرات التي تحدث في العراق، ذلك أنها تدعو، بصورة مفرطة، إلى"التحريض والتعبئة". ويضيف نعمة ان هذه القنوات، ولدى محاولتها تسليط الضوء على تجربة مسرحية أو شعرية أو تشكيلية، تظهر المثقف العراقي بمظهر"المهزوم والبائس"، مختتماً بأن"من الأفضل لهذه الأموال التي تصرف على الفضائيات أن تذهب لتمويل مشاريع ثقافية وتنموية وخدمية". وسط هذا الركام الفضائي تميزت تجربة الفضائيات الكردية. ذلك أن البث الفضائي الكردي سبق الفضائيات العراقية الوليدة بأعوام، فقناة"كرد سات"التابعة للاتحاد الوطني الكردستاني يتزعمه جلال طالباني رئيس العراق، وقناة"كردستان تي. في"التابعة للحزب الديموقراطي الكردستاني يتزعمه مسعود البرزاني ظهرتا قبل سقوط النظام العراقي بسنوات. ولعل هذا مكنهما من امتلاك تقاليد إعلامية مقبولة. ونجحت هاتان الفضائيتان في إيصال الصوت الكردي في شكل لائق ومقبول. كذلك أنشأ"الديموقراطي"قناة"زاغروس"باللغة الكوردية، في حين أسس"الاتحاد"قناة"الحرية"باللغة العربية، وإذا كان هذا الجانب اللغوي يكشف عن تباين سياسي يشير إلى راديكالية"الديموقراطي"في ما يتعلق بالقضية الكردية، واعتدال"الاتحاد"، فإن القناتين الجديدتين لم تخرجا عن التوجه الإعلامي الذي رسمته لهما القناة الأم. هذه قنوات تبحث عن"التوازن"وسط واقع إعلامي عراقي متشعب ومأزوم لا يحتمل كثيراً هذه الصفة.