لا تزال استطلاعات الرأي تميل الى اعطاء الغالبية لحزب المحافظين البريطاني في الانتخابات التشريعية التي تجرى في 6 ايار مايو المقبل. وتُسجّل الحملة الانتخابية بروز أشكال جديدة بعضها له نكهة مُتهمَّة بالأمركة شخصنة، مناظرات تلفزيونية، أدوار بارزة لزوجات الزعماء، استعمال واسع للإنترنت وتويتر ألخ. لكن اللايقين حول النتائج وآثارها المباشرة هو اليقين الوحيد اليوم، بخاصة أنها قد تسفر عن عدم حصول اي من الأحزاب الثلاثة الأساسية على أكثرية مطلقة 326 نائباً ممَّا قد يضطرها الى عقد تحالفات او اللجوء لاحقاً إلى تنظيم انتخابات مسبقة. وعدا أهميتها في تحديد الموقع المقبل لحزب العمال بعد 13 سنة متوالية من الحكم على ضوء أفضليات الناخبين وأولوياتهم وأفكارهم اليوم، فإن هذه الانتخابات ستحدِّد في الوقت ذاته مصائر وعِبَر تطبيق مفهوم"الطريق الثالث"الذي أطَّر نظرياً وبصورة متكاملة لتجربة توني بلير وخلفه غوردون براون. وهي تجربة تمتلك بصفتها هذه أبعاداً اوروبية ودولية لتأثيرها ولاتصالها بتجارب واتجاهات الحركة الاشتراكية الديموقراطية واليسار بعامة في فترة مفصلية يشهدان فيها خلال السنوات الأخيرة صعوبة مُعلنة لجهة القدرة على صياغة مشروع إجمالي أولاً، ونهاية هيمنتهما على حكومات معظم أقطار الاتحاد الأوروبي ثانياً على رغم الأزمة المالية التي أعادت الى الواجهة نقد التفلُّت الرأسمالي وصياغته النظرية النيوليبرالية وبروز عودة الحاجة الى دور الدولة. والحال أنه على رغم لايقينية النتائج النهائية فمما لا شك فيه أن مفهوم الطريق الثالث بالذات يشهد تراجعاً يرسم ربمَّا طريق نهايته كما جرى تقديمه حتى الآن دون أن يلغي ذلك إمكانية ولادة تجاوزية في صياغة جديدة للمعطيات والتوجهات التي كانت في أساس نشوئه، والتي تحتوي على مُشترَكات كثيرة مع القضايا التي تواجه الاتجاه الاشتراكي الديموقراطي في معظم الدول المتقدّمة. والمُشترَك الأولي هو بقاء وتعميق الشرط الاقتصادي - السياسي العالمي. إذ في الأساس فإن مفهوم -"الطريق الثالث"كما قدَّمه توني بلير ونظَّر له عالم الاجتماع المعروف انتوني غيدنز انطلق من فكرة بسيطة قوامها اعادة بناء استراتيجية ديموقراطية اشتراكية على ضوء عاملين مؤسِسين مترابطين: انهيار المعسكر السوفياتي وتسارع العولمة. والأول صار من ثوابت التاريخ فيما الثاني يزداد وتيرة حيث أظهرت أشكال ومستويات انتشار الأزمة المالية العالمية كم أنه صار كلي الحضور. وعدا عن أنه سمح في حينه بالتهيئة لإنهاء حقبة حكم المحافظين وسيدتهم"الحديدية"مارغريت تاتشر وخلفها جون مايجور، فإن هذا المفهوم بدا وكأنه يقدِّم مزايا ثلاثاً من زاوية أصحابه: الأولى، إطلاق النقاش حول مستقبل الاشتراكية الديموقراطية بانتزاعها من الحنين الى الماضي الاشتراكي الماركسي، والثاني وضع مُنازلة النيوليبرالية في موقع هجومي ايجابي بدلاً من أن يكون دفاعياً خالصاً، والثالث تسهيل وتسويغ البحث في المسالك والطرائق المتنوعة الممكنة لتطبيق المفهوم في أُطُر وطنية. وينسب غيدنز الى الأصل الماركسي للاشتراكية الديموقراطية نزوعها الدائم الى الاستهانة بقدرة الرأسمالية على التحول ويحض على العيش معها وليس على قلبها، ليُثبت تالياً ان العولمة لا تُسائل الاشتراكية الديموقراطية الكلاسيكية وحدها وإنما مُحافظة اليمين ايضاً. فهي تُهدِّد الأولى بفتح الحدود وبإنهاء تسويغ فكرة اعادة التوزيع فيما الثانية تُخيفها"ثورية"النيو ليبرالية بسبب ميلها الى هلهلة التقاليد. بالطبع كانت ولا تزال هناك قراءات وتقييمات متعارضة ل"الطريق الثالث"ومنظومته الذرائعية داخل الاتجاه الاشتراكي الديموقراطي نفسه وفي الاتجاهات اليسارية الأخرى. وأزمته المُعلنة التي فاقمها الالتصاق بالسياسة الأميركية في أفغانستان والعراق والركود لا بد أن تعطي وزناً اكبر للنقد الذي كان يمكن تجاهله بسهولة نسبية في فترة الصعود والنجاح. ويقول خصوم الطريق الثالث في الحركة الاشتراكية الديموقراطية ان اليسار"الحديث"ساهم في تدعيم الرأسمالية المالية عبر انهاء ضبط الأسواق ومن خلال خصخصة النظام المصرفي والمؤسسات الاستراتيجية ويتهمه بأنه تبنَّى التفكير الجاهز النيوليبرالي واستعاره من خصومه اليمينيين دون ان يعلن ذلك، الأمر الذي فعله توني بلير عندما تبنى مُواكبة دون عُقد للعولمة النيوليبرالية: تحرير الأسواق وخفض الضرائب على المداخيل العالية وتطويع سوق العمل وخصخصة وتفكيك"دولة الرفاه". وفي نقد فرنسي لتيار شيوعي متمسك بوحدة اليسار يقول دانيال سيريرا في كتاب صدر له مؤخراً بعنوان"فشل ونهاية حقبة"إن الاشتراكية الديموقراطية في"الطريق الثالث"تعتبر أن الاشتراكية كعقيدة وكنظام بديل قد ماتت وأنه لم يبقَ لها الا ضبط اقتصاد السوق ومحاولة البقاء في الوسط، ليس وسط الرقعة السياسية بين اليمين واليسار، وإنما كلاعب مركزي في فضاء سياسي متحرِر من الصراع الطبقي. والحال أن تنظير حزب العمال وغيدنز لم يلقَ من يعارضه في الحركة الاشتراكية الديموقراطية وكان يُعطى كمثال ناجح للاشتراكيين عموماً وللفرنسيين خصوصاً بعد سقوطهم في انتخابات 2002. وكانت المعارضة الوحيدة والعابرة قد سجلَّها الحزب الاشتراكي الديموقراطي الألماني في برنامج هامبورغ في العام 2007، تحت تأثير كورت بوك. وهو برنامج حاول اعادة تعيين نطاق وحدود الاشتراكية الديموقراطية وتفسير أسباب ترهل وفشل مشروع الطريق الثالث. وينتهي سيريرا بالتساؤل في الختام عن امكانية تسوية اجتماعية جديدة وعما اذا كان بوسع الاشتراكيين فتح أفق مختلف وهو سؤال يُطرَح على كل القوى الوارثة لتسمية اليسار. إلاَّ ان النقد المرشّح للازدياد بحكم الفشل المرجَّح لحزب العمال في الانتخابات يجب ألاَّ يحجب بعض الوقائع. فالطريق الثالث كما عرضه غيدنز يمثل"تقنيناً"نظرياً لممارسة سياسية، أكثر منه توليداً لإيديولوجية جديدة. ومن هنا ثمة مبالغة في القول ان البليرية كانت اعادة بناء لليسار أو أنها نسف له. إذ للانتقال من الممارسة السياسية الى اعادة البناء كان يجب الاستناد الى مبادىء اخلاقية وثقافية جديدة. وهذا ما لم يفعله الطريق الثالث. وتجلى ضعفه بشكلين: فهو يهمل بناء منظومة نقدية للرأسمالية الجديدة مكتفياً من ذلك بنقد أصولية السوق. كما أنه لطموحه الى"إجماعوية اجتماعية"ضعيفة الاحتمال افتقر إلى تحليل لكيفية تحويل النظام وقواعده ولنسبة القوى الاجتماعية. وهذا عائد الى مقاربة التغيير من زاويتي التكنولوجيا وسوسيولوجيا الفرد. ومن هنا التناقض بين موقف جريء لمصلحة الحماية الاجتماعية من جهة وموقف قريب الى النيوليبرالية في موضوع ضبط السياسات الاقتصادية الكبرى للنظام الرأسمالي من جهة أخرى. في حين ان الهوية الاشتراكية الديموقراطية انبنت تاريخياً على التمكن من نقد هذا النظام ونزوعه الى تصوير المعايير التي ينشئها لاعبوه بمثابة معايير متصلة بالمصلحة العامة. امَّا نقطة الضعف الثانية فتكمن في تواضع المحتوى الأخلاقي الفلسفي للطريق الثالث. والحال ان"التأزم الانتخابي"للطريق الثالث قد يكون مناسبة لإعادة نظر في المشروع الاشتراكي الديموقراطي بمجمله دون الوقوع مجدَداً في الغنائية واليوتوبيا القديمتين، وللتفكُر حول المحل الذي يحتله السوق في النظام وكيف يمكن الاحتراز من مماهاة المجتمع بالسوق، ولتفادي أخطاء حزب العمال وتظليله المقصود للانقسامات الاجتماعية وصراعات المصالح: كما لو انها سياسة بلا خصوم. * كاتب لبناني.