مثلما تُقرأ الدولة العثمانية من الخارج إلى الداخل، كذلك تقرأ تركيا"العدالة والتنمية"دولةً"عثمانية جديدة"، لكن بديبلوماسية لينة وخطاب ووسائل ضغط وتأثير أكثر مرونة وتطوراً ومحاكاة للعصر، تستحضر"إرث القوة العظمى وإعادة تعريف مصالح البلاد القومية والاستراتيجية، ما يقود إلى ضرورة النظر إلى تركيا بكونها قوة إقليمية كبرى تتحرك ديبلوماسيتها النشطة في اتجاهات عدة محورها الانخراط المتزايد في شؤون الشرق الأوسط على قاعدة التقارب مع العرب والمسلمين"، بحسب الباحث والمحلل السياسي والاستراتيجي ميشال نوفل، صاحب كتاب"عودة تركيا الى الشرق.. الاتجاهات الجديدة للسياسة التركية"** الذي يستحق التفاتة خاصة في مناسبة صدوره قبل أيام في بيروت. لطالما شغلت تركيا، إمبراطورية ودولة، وهي المتربعة فوق تقاطعات التاريخ والجغرافيا وطرق مواصلات القفقاس والبلقان والشرق الأوسط، موقعاً ذا أهمية استراتيجية بالغ الحساسية لكل من الولاياتالمتحدة الأميركية وأوروبا والعالم العربي أيضاً. وها هي اليوم بزعامة"مؤذن اسطنبول"رجب طيب أردوغان باتت مركز جذب لاهتمام العالم بصورة متكررة، وتحديداً على امتداد العقدين الأخيرين، أكثر منها في سني الحرب الباردة، يوم كانت معقلاً لجهود احتواء الاتحاد السوفياتي، مذ"وجدت نفسها في حقبة تاريخية أخيرة مضطرة إلى أن تعدل وتطور توجهاتها السياسية الخارجية نتيجة التغيرات التي طرأت على العالم منذ انتهاء الحرب الباردة"، إن لناحية"تقديم"إسلام ليبرالي فاعل ومؤثر ومشارك وصاحب رؤية ومشروع، أو احتضان حوار داخلي يزداد حيوية ونشاطاً ويرتكز الى مقولات الإصلاح السياسي والخروج من إسار الماضي، ومجتمع مدني يؤكد ذاته يوماً بعد آخر في مواجهة الدولة المركزية المتخندقة، ومن ثم اقتصاد حيوي متنامٍ بات يحتل مكاناً بين الاقتصادات العشرين الكبرى في العالم. هنا تكمن أهمية كتاب"عودة تركيا الى الشرق"، فمع رصد بدايات تبلور نظام إقليمي جديد في الشرق الأوسط، واضح أنه ليس عربياً محضاً في جيوبوليتيك المنطقة، يأتي في طليعته الدور التركي الصاعد، يكون لزاماً إعادة قراءة"الاتجاهات الجديدة للسياسة التركية"بطريقة جديدة خارج إطار الأيديولوجيات والأحكام المسبقة وعقد الماضي، فالتاريخ لا يصنع الحاضر، لكنه لا ينفيه أو يأسره. كانت تركيا تسيطر على المنطقة، صحيح، لكنها ما كانت مرة مثالاً لها، ولذلك نجد أن"الخلافة"الإسلامية العربية ظلت هي النموذج في الوعي والممارسة حتى لدى الأتراك. تركيا اليوم، وهذا الأهم، لا تعرض نموذج آل عثمان، ولا أحد يريد ذلك أصلاً، يبد أن نموذجها لعلاقة متجددة وإيجابية مع محيطها العربي والإسلامي، معطوفاً على مقارباتها الفذّة في مجالات التنمية والاقتصاد والديموقراطية وعلاقة الدين بالدولة، طموح وجذاب، وعلى أساس من ذلك وبسبب منه تزداد أهمية الكشف عن تجربة هذه البلاد في شكل أكاديمي ومحايد، وهو ميزة كتاب نوفل المتابع لشؤون الشرق الأوسط في تفاعلاته العربية التركية والإيرانية، الذي حمل كتابه عنواناً مركباً وجاء موثقاً بدقة تجعله، على جزالته 151 صفحة، مرجعاً مكثفاً يشتمل على فهارس للبلدان والمدن والمناطق والشعوب وللمفردات والمفاهيم وللشخصيات وللهيئات والتيارات والوجهات والأحزاب وثبت للمراجع والمصادر وآخر للخرائط التي ضمها الكتاب. في تقديمه الذي حمل عنوان"بمثابة تمهيد"ضمّن نوفل خلاصات رئيسة لأطروحة الكتاب التي توزعت لاحقاً على خمسة فصول هي"تركيا وصعود العالم التركي"و?"حركة التوليف التركي الإسلامي"و?"إعادة توجيه السياسات التركية"و?"العراق في مفهوم العثمانية الجديدة"و?"المقاربة التركية للشرق الاوسط". فإذ يرجع بدايات التغير الأساسي في السياسة التركية إلى العام 1980"عندما شرعت الدولة في فتح الأبواب للنظام الاقتصادي العالمي فأطلقت حركة السوق وحررت نظام التجارة الخارجية وكان التبدل في مفهوم التصنيع في المرحلة الأولى في التحول الاستراتيجي على مستوى نظرية الدولة"، يلفت إلى أنه"في نطاق السياسة الخارجية استمر تأكيد انتماء تركيا إلى العالم الغربي خصوصاً طلب الانتماء إلى الأسرة الأوروبية فيما كان يجري توثيق الروابط الاقتصادية والتجارية بالعالم العربي والإسلامي. وتمكنت تركيا من تعويض تقلص قيمتها الإستراتيجية بنظر قادة العالم الغربي أواخر الثمانينات نتيجة للتحولات التي أسفرت عن انهيار الأنظمة الشيوعية في أوروبا وتفكك الاتحاد السوفياتي. ويتابع"فقد جاء الغزو العراقي للكويت عام 1990 ليعيد تذكير الغرب الحريص على امداداته النفطية بأهمية انقرة الحيوية بالنسبة الى امنه. ومن ناحية اخرى انفتحت آفاق جديدة امام الديبلوماسية التركية نتيجة التفكك الكامل للاتحاد السوفياتي وانعكاساته في منطقتي القوقاز وآسيا الوسطى حيث تعيش شعوب لها جذور مشتركة مع اتراك الاناضول وتم الاعتراف فعلاً بظهور عالم تركي كان خارج حسابات الرؤية الرسمية"، ويقول"ان هذا العالم يشمل ست جمهوريات مستقلة اضافة الى تتارستان داخل الاتحاد الروسي والاقليات التركية في البلقان والعراق وايران والصين ما يعني ان مسؤوليات جديدة باتت تترتب على الطبقة السياسية والمجتمع المدني في تركيا". وقال انه مع مطلع عام 1992 صارت تركيا"بمثابة القطب الجاذب في مجال جيوسياسي واسع يمتد من البلقان غرباً الى حدود الصين شرقاً واكتسبت السياسة الخارجية التركية ابعاداً جديدة تفرض على انقرة التصرف كقاطرة لدفع"الجمهوريات التركية"المستقلة حديثاً الى حضن النظام العالمي وقد تحقق ذلك فعلاً عام 1992". ورأى ان الكمالية - نسبة الى نظام كمال اتاتورك - نتيجة لكل ذلك"تجاوزها تقادم الزمن شأنها في ذلك شأن الايديولوجيات الشمولية المنهارة في الاتحاد السوفياتي سابقاً وفي بلدان شرق اوروبا. كذلك تبين ان الايديولوجيا الرسمية الجديدة التي تبنتها المؤسسة العسكرية التركية قبل ان تقدم على تنفيذ انقلاب 1980 ترفع لواء الكمالية وتستند عملياً الى مفهوم ثقافة وطنية تمتد جذورها في الدين الاسلامي". وثبة ذئب الأناضول هذه تعكس، إذاً، مساعي أنقرة الحثيثة تأهّلاً للدور الكبير الذي تلعبه في المجالات الإسلامية والآسيوية والدولية، بعدما اقتصر دورها، زمن الحرب الباردة وردحاً من القرن العشرين، على تمثيل العلمانية في صيغتها القصوى دولةً ودوراً، وعلى خدمة المصالح الاستراتيجية الأميركية والأوروبية في موازاة غياب ملتبس للجوار العربي تأثّراً وتأثيراً. فبعد سنوات من وصول إسلاميي حزب"العدالة والتنمية"PKP بزعامة أردوغان إلى السلطة 2002، حصلت تطورات هائلة في بلاد الأناضول، فالليرة المتهاوية صارت عملة أحد أقوى البلدان الاقتصادية، والمسألة الكردية التي فشلت كل الحكومات في التعامل معها، باتت مادة لحوار تسبقه مبادرات تعكس حسن النيات كإعادة الاعتبار لأسماء شوارع ورموز ثقافية كردية كانت مطموسة زمن الحكم العسكري، والمصالحة التركية - الأرمنية خطت خطوات مهمة، مضافاً إلى ذلك، حضور تركيا بديبلوماسيتها النشطة باتجاهاتٍ متوازنةٍ أو متناقضةٍ أحياناً، في كل نقاط التوتر الإقليمي، كطرف فاعل ووسيط ناجح، من خلال اعتمادها سياسة تقوم على السعي للوصول إلى حالة"صفر مشاكل مع جميع دول الجوار"، من دون أن يلغي ذلك كونها عضواً أساسياً في حلف شمال الأطلسي، ولها قوات عسكرية مشاركة في أفغانستان. أما العداء مع سورية حول إقليم اسكندرون فتحوّل إلى نفوذ في هذا البلد، في حين أن العلاقة الإستراتيجية مع إسرائيل تتحول تدريجاً إلى علاقة وسيط مقبول. أما رفض تركيا التعاون مع الولاياتالمتحدة تمهيداً لغزو العراق عام 2003 فكان"بمثابة الكاشف للاتجاهات الجديدة للسياسة الخارجية التركية"بحسب نوفل. تنبع أهمية هذا الكتاب باعتباره قراءة شديدة التبصر بالتحولات التركية منذ عقدين ونصف العقد وصولاً الى ما آلت إليه كدولة محورية في الإقليم كله، وربما كان من أهم ما في الكتاب من الناحية التوثيقية سجل زمني لأحداث تاريخية مهمة تتعلق بموضوع بحث المؤلف وقد اورده تحت عنوان"معالم كرونولوجية"وفيه عناوين مختصرة ابتداء بتاريخ معين هو القرن التاسع للميلاد حيث اشار الى معلم تاريخي هو"تدفق كثيف للمجندين الترك في خدمة الخليفة العباسي"وانتهاء بمعلم آخر عنوانه هو"6-10-2004: اللجنة الاوروبية تصدر تقريرها في شأن الوضع التركي بالنظر الى معايير العضوية في كوبنهاغن وتعتبر ان تركيا تحترم بصورة كافية المعايير الديموقراطية المحددة في الاتحاد الاوروبي". كل ذلك يجعل من الكتاب مادة رئيسية للباحثين والمهتمين في الشأن التركي والمتابعين للشؤون العامة في المنطقة وتجارب الدول الرائدة فيها. * كاتب لبناني نشر في العدد: 17158 ت.م: 27-03-2010 ص: 28 ط: الرياض