مثلما تقرأ الدولة العثمانية من الخارج إلى الداخل، كذلك يقرأ الكتاب - الموسوعة "التاريخ الاقتصادي والاجتماعي للدولة العثمانية" للأستاذين البارزين خليل إينالجك ودونالد كواترت، الذي يستحق التفاتة خاصة في مناسبة صدوره قبل أيام في بيروت باللغة العربية بعد نحو عقد على صدوره للمرة الأولى باللغة الإنكليزية وتوالي صدور طبعاته بلغات العالم الحية باعتباره المرجع الأهم والأبرز في دراسة المجالات الحضارية والاقتصادية والاجتماعية ومؤسسات المجتمع الكلاسيكي في الإمبراطورية العثمانية. لطالما شغلت تركيا، إمبراطورية ودولة، وهي المتربعة فوق تقاطعات التاريخ والجغرافيا وطرق مواصلات القفقاس والبلقان والشرق الأوسط، موقعاً ذا أهمية استراتيجية بالغ الحساسية لكل من الولاياتالمتحدة الأميركية وأوروبا والعالم العربي أيضاً. فتركيا اليوم باتت مركز جذب لاهتمام العالم بصورة متكررة، وتحديداً على امتداد العقدين الأخيرين، أكثر منها في سني الحرب الباردة، يوم كانت معقلاً لجهود احتواء الاتحاد السوفياتي. إن لناحية"تقديم"إسلام ليبرالي فاعل ومؤثر ومشارك وصاحب رؤية ومشروع، أو احتضان حوار داخلي يزداد حيوية ونشاطاً ويرتكز على مقولات الإصلاح السياسي والخروج من إسار الماضي، القريب والبعيد، ومجتمع مدني يؤكد ذاته يوماً بعد آخر في مواجهة الدولة المركزية المتخندقة، ومن ثم اقتصاد حيوي متنام بات يحتل مكاناً بين الاقتصادات العشرين الكبرى في العالم، وإن كان كل هذا لا يلغي أن تركيا لا تزال تعاني"التباسات"عدم قبولها عضواً في الاتحاد الأوروبي ومشكلة الأكراد وقبرص، ومن ثم"التسلل"الإيراني في دول المنطقة بمحاذاة مجالاتها الاستراتيجية تحت ذريعة الشعارات الدينية الكبرى وما يفرضه كل ذلك من تحديات عليها وعلى المنطقة ككل. هنا تكمن أهمية كتاب"التاريخ الاقتصادي والاجتماعي للدولة العثمانية"، فمع رصد بدايات تبلور نظام إقليمي جديد في الشرق الأوسط، واضح أنه ليس عربياً محضاً في جيوبوليتيك المنطقة، يأتي في طليعته الدور التركي الصاعد، يكون لزاماً إعادة قراءة التاريخ بطريقة جديدة خارج إطار الأيديولوجيات والأحكام المسبقة وعقد الماضي، فالتاريخ لا يصنع الحاضر، لكنه لا ينفيه أو يأسره. كانت تركيا تسيطر على المنطقة، صحيح، لكنها ما كانت مرة مثالاً لها، ولذلك نجد أن"الخلافة"الإسلامية العربية ظلت هي النموذج في الوعي والممارسة حتى لدى الأتراك. تركيا اليوم، وهذا الأهم، لا تعرض نموذج آل عثمان، ولا أحد يريد ذلك أصلاً، يبد أن نموذجها لعلاقة متجددة وإيجابية مع محيطها العربي والإسلامي، ومقارباتها الفذّة في مجالات التنمية والاقتصاد والديموقراطية وعلاقة الدين بالدولة طموح وجذاب، وعلى أساس من ذلك وبسبب منه تزداد أهمية الكشف عن تاريخ هذه البلاد في شكل أكاديمي ومحايد، وهو ميزة الباحثين المشاركين في هذا العمل، ليكون منطلقاً لأية دراسة مستقبلية في جوانب العلاقة مع"تركيا اليوم". التاريخ والصورة النمطية في كتابه"المتوسط والعالم المتوسطي في عهد فيليب الثاني"يعتبر فرناند بروديل مؤرخ الحوليات الشهير الدولة العثمانية جزءاً أساسياً من عالم البحر الأبيض المتوسط، ليس فقط في الصراع على السيطرة وإنما أيضاً في العلاقات الاقتصادية، لكنه يعترف بعدم معرفتنا بهذه المنطقة التي سيطر عليها العثمانيون في القرن السادس عشر، علماً بأن الأرشيف العثماني مصدر غني لتنوير هذا التاريخ بكافة وجوهه وتفاصيله. ومن هنا كانت انطلاقة هذا المشروع الضخم الذي بدأه البروفيسور إينالجك مع نخبة من البحاثة الأوروبيين والأتراك في العام 1985، والذي أبصر النور في مجلدين صدرا عن دار جامعة كمبريدج في العام 1994، وأعيد طبعهما في سنوات 1997، 1999، و2000 قبل أن يصدر قبل أيام في بيروت بنسخته العربية، فهذان المجلدان ليسا إلا تعبيراً عن الاهتمام المتزايد بالدراسات العثمانية، كما أنهما يمثلان تضافر جهود بحاثة مرموقين لإعادة تقويم مكانة الدولة العثمانية في التاريخ العالمي. وهما يتكونان من أبحاث عدة تناول فيها إينالجك في المجلد الأول المسائل الاقتصادية والاجتماعية بين أعوام 1300 - 1600 مقدماً تواريخ الأحداث وترتيبها وفقاً لتسلسلها الزمني كرونولوجيا، أما في المجلد الثاني فقد تناولت ثريا فاروقي قضايا الأزمات والتغيير بين أعوام 1590 - 1699، وتناول بروس ماك غوان دراسة عصر الأعيان 1699 - 1812، بينما تناول دونالد كواترت عصر الإصلاحات 1812 - 1914، واختتم المجلد الثاني بدراسة شوكت باموك لمالية الدولة العثمانية 1326 - 1914. باختصار قدم إينالجك ورفاقه"رواية مفصلة"لجوانب التاريخ الاقتصادي والاجتماعي للمناطق العثمانية، منذ نشوء الإمبراطورية عام 1300 حتى عشية سقوطها خلال الحرب العالمية الأولى، ثم إن مدى هذه التغطية الواسعة وشموليتها يجعلان هذين المؤلفين ركيزة أساسية لفهم التطورات المعاصرة في كل من الشرق الأوسط وعوالم بلقان ما بعد الاتحاد السوفياتي. لقد جعلت معظم الدراسات التاريخ العثماني مرتبطاً بمسألة"التخلف"فقد عزا البعض أسباب الجمود، أو التطور البطيء في الشرق الأوسط والبلقان للبناء الاجتماعي المحدد الموروث عن الماضي العثماني. يبد أن الدولة العثمانية ما كانت الدولة الوحيدة في العالم التي تخلفت عن الركب الحضاري الأوروبي؟ ثم كيف يمكن أن نفسر فشل مجتمعات أخرى في آسيا وأوروبا الشرقية لم تكن خاضعة للعثمانيين في إظهار ديناميتها؟ إذاً، ليست الدولة العثمانية الدولة الوحيدة التي لم تواكب سرعة التحديث الأوروبية، ولذلك لم تعد مسألة التخلف مرافقة للماضي العثماني، بل أصبحت بدلاً من ذلك قضية مشتركة بين كل المجتمعات التقليدية اللاغربية. ويصبح السؤال المطروح هو لماذا تمكنت بعض الدول من إحراز تقدم سريع في التحديث أكثر من غيرها؟ ومن هنا فإن مسألة التخلف أو التطور البطيء تحمل في طياتها شكلاً عنصرياً إذ طرحت كادعاء بأن الأتراك كانوا مسؤولين عن تخلف بعض المجتمعات. لقد كانت الدولة العثمانية دولة متعددة اللغات، متعددة الأديان والإثنيات، وكذلك كانت نظاماً سياسياً متعدد الثقافات، وهي أقرب ما تكون الى المجتمعات الغربية التعددية المعاصرية بتركيبتها الاجتماعية والدينية والثقافية. ومن هذا المنطلق، فإن النظرة الى الدولة العثمانية باعتبارها قد حافظت على الاستقلالية الدينية واللغوية والإثنية للمجموعات المختلفة من رعاياها ضمن نظام سياسي قوي بما فيه الكفاية لحماية حياتهم وممتلكاتهم، قد أدت وبالتأكيد الى بروز صورة مختلفة تماماً للماضي العثماني. إن الفهم الصحيح للمجتمع العثماني يمكن أن يلقي أضواء على مصادر الكثير من العادات والمؤسسات الاجتماعية، كما يمكن أن يساعد على فهم مواقف وآراء القادة الذين يحكمون اليوم بلدان الشرق الأوسط والبلقان. إن الخلفية العثمانية المشتركة لهذه المؤسسات والمواقف تعطي للمجتمعات التي شكلت جزءاً من العالم العثماني، وبالأخص مجتمعات الشرق الأوسط، بعض التماثلات الأساسية والثابتة والتي استمرت الى اليوم على رغم اختلافات المناطقية، والثقافية، والدينية، وعلى رغم تنوع الولاءات السياسية. فمما لا شك فيه أن المرحلة العثمانية في تاريخ المنطقة العربية، والتي استمرت مدة أربعة قرون على الأقل قد شكلت عاملاً رئيسياً في قيام الأوضاع الحالية للعالم العربي المعاصر. فعندما ننظر الى التنظيمات الاجتماعية نتبين من خلال الدراسات الحديثة أن قيام الأسر الإقطاعية وغيرها من الأسر العربية المحلية النافذة جاء نتيجة نظام الالتزام العثماني الخاص في القرن الثامن عشر. فقد انحصرت القيادة في المدن العربية في الملتزمين النافذين أو عائلات العلماء. أما الفئة الثالثة من القيادة المحلية فقد جاءت من القادة العسكريين العثمانيين المحليين، ومن قادة الانكشارية أو من كبار الإداريين الذين اندمجوا، مع مرور الوقت، في النخبة المحلية. الموضوعات التي يعالجها هذا المجلدان مثل نظام ملكية الأرض المسيطر عليه من جانب الدولة، وعمليات الإسكان الكثيفة التي حولت اسطنبول من مدينة لا يتجاوز عدد سكانها 70 ألف نسمة عند فتحها الى حاضرة زاد عدد سكانها على عدة مئات من الألوف، والتي أوجدت كذلك سلسلة من المراكز الدينية الجديدة في الأناضول والبلقان، ونظام الطوائف الحرفية التي ضمت الحرفيين بغض النظر عن معتقداتهم الدينية، وازدياد الطلب على السلع الزراعية الذي شكل حافزاً للإنتاج الواسع، والتبادل الكثيف للبضائع الذي سهّل قيام المراكز التجارية وطبقة التجار الجديدة، من كل المجموعات الإثنية، كل هذا ليس إلا جزءاً من المؤسسات والأنساق التي تركت بصمات عثمانية على شعوب الإمبراطورية وبخاصة في الشرق الأوسط. ويجدر القول ان معظم هذه القوى التي تشكل الخلفية الاجتماعية والثقافية العثمانية لم تدرس في شكل جيد، إلا في ما ندر. العلاقات التركية العربية: رؤية مستقبلية لقد سمّى العثمانيون دولتهم بالدولة العلية العثمانية. أما مصطلح الإمبراطورية العثمانية فقد أخذ مكانه ومكانته في المصادر الحديثة. وهذا المصطلح، مصطلح تاريخي يستخدم للمؤسسات السياسية التي جمعت مختلف الأمم والأديان والثقافات تحت مظلتها السيادية. والعثمانيون كانوا ينظرون الى العرب باعتبارهم قوم الرسول الكريم ويطلقون عليهم القوم النُجُب والسادة. كما أن العثمانيين كانوا يهتمون اهتماماً بالغاً بتعلم اللغة العربية. في هذا الكتاب سرد الكثير من الأمور إبان حكم السلطنة العثمانية، ما كانت ضد المصالح العربية. ذلك ان السلاطين المماليك فشلوا في التصدي للبرتغاليين الذين احتكروا التجارة في المحيط الهندي ومنعوا العرب من المتاجرة وباستخدام أقسى الأساليب غير الإنسانية. وبعد مجيء العثمانيين بقواهم ومعداتهم العسكرية الرادعة قاموا بإحياء التجارة الشرقية بين الهند والشرق الأوسط. ونتيجة لذلك استعادت الموانئ والمدن العربية مثل مكةوجدة والقاهرة والإسكندرية والشام دمشق والموانئ اليمنية تجارتها. كما ازدهرت مدن طرابلس وصيدا وعكا، وشهدت حلب ازدهاراً تجارياً لم تشهده من قبل، بعد أن أصبحت من أهم المراكز التجارية للأوروبيين. باختصار، لقد حافظ العثمانيون على العالم الإسلامي طيلة أربعة قرون من الأخطار الخارجية، التبشيرية والاستعمارية. ولم تتمكن أوروبا من فرض هيمنتها على البلاد العربية إلا بعد الحرب العالمية الأولى. * كاتب لبناني