في بداية الثمانينات من القرن العشرين عرض بعض محطات التلفزيون العربية مسلسلاً مصرياً بوليسياً مثيراً عنوانه"وتوالت الأحداث عاصفة"، وكانت البطولة للفنان الراحل عبدالله غيث الذي لعب دور ضابط المباحث"رشدي". وهو كان يسعى الى اعتقال زعيم العصابة"البرادعي"، الذي جسد دوره الفنان حسن مصطفى. وتدور أحداث المسلسل حول مطاردة شيّقة ومثيرة بين الاثنين، وكلما فشل رشدي في اعتقال البرادعي، اتصل الأخير بضابط المباحث ساخراً ليقول له:"أنا البرادعي يا رشدي". وفي النهاية اكتشف رشدي أن البرادعي هو جاره، وصديق العائلة. اليوم يتكرر مسلسل البرادعي، ولكن بأحداث سياسية واقعية هذه المرة. فالمدير السابق للوكالة الدولية للطاقة الذرية محمد البرادعي، الحائز جائزة نوبل للسلام، وصديق السلطة في مصر، قرر خوض انتخابات الرئاسة في بلده، إذا حصل على ضمانات بانتخابات نزيهة وشفافة. وهو قصد تغيير طريقة اختيار الرئيس التي تحولت بعد تعديل المادة 76 من الدستور، من الاستفتاء داخل مجلس الشعب إلى الانتخاب المباشر، مع اشتراط حصول المرشح على تواقيع 250 عضواً في المجالس المنتخبة، وهو شرط جعل فرص المستقلين في الترشح شبه معدومة. البرادعي الحقيقي عاد يوم الجمعة الماضي وأثار رجوعه الى البلد سجالاً إعلامياً وسياسياً واسعاً بين أطياف المجتمع المصري، وبات اسمه حديث المجالس والصحف المصرية، تماماً مثلما كانت مغامرات البرادعي المتخيل في المسلسل حديث المدينة. الفارق هو بين صورتي البرادعي الأول والبرادعي الثاني الذي أطلق عليه مناصروه صفة المنقذ، في حين وصفه بعض خصومه بأنه مجرد حالة احتجاجية. لا شك في أن فرصة البرادعي للوصول الى كرسي الرئاسة ضعيفة، إذا لم تكن معدومة، لأسباب دستورية وشخصية. فمن الصعب إحداث تعديلات دستورية تسمح له بالوصول، فضلاً عن أن نسبة كبيرة من أبناء الشعب لا تعرفه. لكن المفارقة المثيرة هنا هي أن محمد البرادعي لقِب بالمرشح الافتراضي، استناداً الى حصوله على التأييد من مواقع ال"فيس بوك"، فاشترك مع البرادعي الأول بصفة المتخيل... وكأن مصر قررت معاودة عرض مسلسل البرادعي، إنما في الهواء الطلق هذه المرة. وبعيداً من الدراما، والميلودراما، قصة محمد البرادعي أكدت أن الإرث السياسي في مصر دون قامتها، وأن"أم الدنيا"التي عرفت العمل الحزبي مطلع القرن العشرين، لم تبرح ثقافة الثورة بعد، ويبدو أن أمامها طريقاً طويلاً للعبور الى السياسة. نشر في العدد: 17127 ت.م: 24-02-2010 ص: 3 ط: الرياض