تحيط البلبلة تصريحات أقطاب الإدارة الأميركية في موضوع إيران بقدر ما يرافقهم التبعثر وهم يتنقلون بين العواصم في أوروبا والشرق الأوسط والخليج. فعلى رغم ما قاله كل من نائب الرئيس جو بايدن ومستشار الأمن القومي جيمس جونز عن قرار دولي يعزز العقوبات على إيران قبل نهاية الشهر الجاري، ليس في مجلس الأمن ما يشير الى حركة كهذه خلال هذا الشهر بل ان مشوار قرار العقوبات ما زال طويلاً، هذا إذا رأى النور أساساً. وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون صعّدت لغوياً أثناء زيارتها قطر والمملكة العربية السعودية ووصفت نظام إيران بأنه بخضوعه لهيمنة"الحرس الثوري"يتحول الى"ديكتاتورية عسكرية". فعلت ذلك في الوقت الذي يحرص الرئيس باراك أوباما على التشديد على استعداد الولاياتالمتحدة للتعامل مع النظام في طهران بكل احترام واعتراف به كأية دولة ديموقراطية لا تقمع شعبها ولا تقع تحت هيمنة"حرس ثوري"يستبدّ بالناس ويسيطر على المراكز السياسية والاقتصادية، هذا إذا وافقت إيران على تقبُّل"الجزرة"والحلول الديبلوماسية والسياسية المعروضة عليها من قِبَل الولاياتالمتحدة وخمس دول أخرى هي: الصينوروسيا وبريطانيا وفرنسا وألمانيا. كبار المسؤولين العسكريين الأميركيين زاروا عواصم مهمة شملت الرياض التي زارها قائد القوات المركزية في المنطقة الجنرال ديفيد بترايوس فيما تحرك رئيس هيئة الاركان الأميركية المشتركة الأميرال مايكل مولن من روسيا الى إسرائيل في الوقت الذي توجه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو الى موسكو ليتحدث عن إيران. وكالات الأنباء الروسية نقلت عن الجنرال الروسي نيكولاي ماكاروف قوله ان مولن أشار الى ان هناك خططاً عسكرية ونية أميركية لضرب إيران، لكن مولن كان يحذر في إسرائيل من"عواقب ليست في الحساب"قد تفرزها ضربات عسكرية ضد إيران، ويشدد على أمله بأن تحقق"الديبلوماسية"و"العقوبات"النتائج المرجوة وليس خيار الضربة العسكرية. هذه البلبلة والبعثرة خطيرتان ولا فائدة منهما في إيصال رسائل في البال لا الى إيران ولا الى الدول العربية أو إسرائيل، ولا الى روسيا أو الصين. الولاياتالمتحدة ليست وحدها المسؤولة عن أجواء التوتر أو عن الانطباع بأن العمل العسكري آتٍ الى إيران والمنطقة. الجنرال ماكاروف مسؤول سيما إذا كان كلامه انطباعاً في غير محله وإذا كان الأميرال الأميركي في الواقع يشجع إسرائيل على الابتعاد عن الخيار العسكري. إسرائيل بالتأكيد مسؤولة لأنها تصعّد على الدوام. إنما أيضاً روسياوالصين مسؤولتان لأنهما، كأمر واقع، تشجعان إيران على الاستمرار في التعنت وتقدمان لها غطاء الحماية من العقوبات الجديدة الجدية ذات الأنياب. فالخوف ليس من خطط على الطاولة جاهزة لعمل عسكري ضد إيران لأن لا مؤشر هناك على التزام أميركي باستخدام القوة العسكرية أو بمباركة عملية إسرائيلية عسكرية متهورة ضد إيران. ان الخوف هو من تصعيد لغوي إيراني أو غير إيراني يؤدي الى زج النفس والآخر في زاوية التصادم والاحتكاكات العسكرية. إنما الآن، كل المؤشرات تفيد بعمل جماعي نحو الحلول السياسية مع إيران، ترغيباً أو ترهيباً، تتقاطع معه مصالح الدول والعلاقات الدولية والإقليمية. في الأممالمتحدة، حيث لا حركة ولا تحرك يذكر نحو مشروع قرار عقوبات على ايران، هناك ترقب ومراقبة لما ستفرزه أحاديث العواصم والتنقلات منها واليها. الواضح حتى الآن هو التالي: أولاً، ان الولاياتالمتحدة لا تريد مجرد عقوبات رمزية ضد إيران بل تريدها عقوبات جدية بما فيها ما يؤذي"الحرس الثوري"الذي له أصابع اخطبوط ممتدة في البرنامج النووي. انها مستعدة للانتظار الى حين اختمار المفاوضات مع الصينوروسيا، بتقاطع مع أدوار للدول العربية الخليجية مع الدولتين، كي تكون العقوبات ذات أنياب. انها تريد استخدام سكة تشديد العقوبات من أجل تحسين خطوط سكة إقناع وترغيب طهران بالانخراط في الحلول الديبلوماسية. الواضح أن ما تريده إدارة باراك أوباما هو الحل السياسي مع إيران، وانها تلجأ الى الضغوط عبر التصعيد اللغوي وحديث العقوبات، ليس من أجل معاقبة النظام في إيران وإنما بأمل ترغيبه بالتعاون وبالحلول السياسية، وفي هذا الإطار، تلجأ الإدارة الأميركية الى روسيا كشريك في معادلة"الضغط للترغيب"سيما ان المواقف الإيرانية المتشددة أحرجت روسيا وأثارت عدم رضاها. فواشنطن لا تنظر الى موسكو على أنها"اعتذارية"لإيران وهي تراهن على مساعدتها المباشرة وعبر تأثيرها في مواقف الصين من قرار العقوبات وتراهن على أن الدولتين لا تريدان لإيران أن تصبح قوة نووية عسكرية وانهما مستعدتان لإيقاف ايران عن الوصول الى ذلك الهدف. كما تراهن ادارة اوباما على أن الصينوروسيا تعيان سيناريو الرعب القبيح الذي يترتب على امتلاك إيران السلاح النووي وتحوّل منطقة الشرق الأوسط والخليج الى ساحة تسابق على امتلاك السلاح النووي. ثانياً، واضح ان روسيا جاهزة للتحدث عن إجراءات ضد إيران إذا تبين لها ان معادلة الضغط للترغيب وصلت الى حائط مسدود. لكن روسيا واضحة في ان الوقت لم يحن وان الرد الرسمي على الوكالة الدولية للطاقة الذرية لم يتم تسليمه بعد، وان الجهود الديبلوماسية مستمرة وهناك فرص متاحة، سيما ان الولاياتالمتحدة مستمرة في الاستعداد للانخراط على رغم الكلام عن العقوبات. روسيا واضحة أيضاً أنه في حال الاضطرار الى تفعيل خيار العقوبات، فيجب أن تبقى محصورة في إطار منع انتشار أسلحة الدمار الشامل. فهي تشترط تركيز الإجراءات على القطاع النووي وليس لتطاول إيران الدولة والبلد. فموسكو واضحة في أنها ليست مع تغيير النظام في طهران وهي لا تنظر اليه بأنه ديكتاتورية عسكرية. أما في ما يخص الصين، فواضح ان المواقف الروسية والصينية لا تختلف كثيراً من حيث الفحوى والمواقف من إيران ومشاريع العقوبات عليها، وربما هناك تنسيق في المواقف وفي أدوات الضغوط للإقناع. واضح ان روسياوالصين ليستا مقتنعتين بأن إيران تحركت بسرعة نحو بناء القوة النووية العسكرية وهما تعتقدان انه داخل الولاياتالمتحدة نفسها هناك من يتساءل عما إذا كانت إيران حقاً قطعت أشواطاً أو انها تناور وتتظاهر بأنها أصبحت قوة نووية سلمية قادرة ان تتحول بسرعة الى قوة نووية عسكرية. ولذلك، انهما تسيران في مسار التيقن من الحقائق أولاً، على الصعيد التقني وعلى أيدي الوكالة الدولية للطاقة الذرية، ثم لكل حادث حديث، بعد اليقين. ثالثاً، واضح ان الصين اليوم تأخذ المقعد الأمامي في محاولة صد العقوبات عن إيران فيما كانت في السابق تترك مقعد القيادة لروسيا. قد يكون الأمر توزيع أدوار بين البلدين، انما هذا لا يخفي الاختلاف في المواقف العلنية، حتى وان كان نسبياً. فالصين متمسكة ببقاء النظام في طهران ومصالحها النفطية تقتضي حماية"الحرس الثوري"من العقوبات سيما لأنه في القطاع النفطي والمالي والتجاري وفي الصناعات العسكرية الدفاعية والصناعات المدنية للبناء، للشركات الصينية الحكومية علاقات وثيقة مع النظام في إيران. والصين ستؤخر وتماطل وتطالب بالأدلة القاطعة قبل الموافقة على قرار عقوبات غير رمزي وستعمل على خلع الأنياب. ولكن، وفي نهاية المطاف ستضطر الصين الى الكف عن الاختباء وراء الدول غير الدائمة العضوية في مجلس الأمن، مثل البرازيل ولبنان، متمنية عليها الامتناع عن التصويت كي لا تكون معزولة. في نهاية المطاف، لن تضع الصين علاقاتها مع إيران في مرتبة أولى تعلو على علاقاتها الثنائية مع الولاياتالمتحدة سيما إذا وصلت روسيا الى استنتاج بأن طهران أوصلت السكة الديبلوماسية الى حائط مسدود. لكنها ستستفيد من لعب العلاقتين ومن المقايضة. اللافت في مواقف الصين هو رؤيتها وتحليلها لامتلاك ايران القدرة على تطوير قدراتها النووية. في تقرير لمجموعة الازمات كرايسز غروب حول آراء الصين في المسألة النووية الإيرانية جاء ان هناك جدالاً داخل أوساط صنع السياسة الخارجية الصينية حول ما إذا كان هناك"خطر"من جرّاء هذه القدرات وما هو تأثيرها على سياسات الصين."هناك مدرسة فكرية تؤكد ان تصرف طهران قد يعرض السلام والاستقرار في الشرق الأوسط للخطر وبالتالي فإنه مضر ومكلف لمصالح الصين في المنطقة. وهذه المدرسة قلقة من احتمال ازدياد التوتر سيما إذا أصبحت الولاياتالمتحدة جزءاً من مواجهة عسكرية ممكنة. أنصار هذا الرأي يؤمنون انه يجب على الصين ان تخشى تحركات طهران وان تسعى بنشاط للتوسط بين طهران وواشنطن". انما هناك مدرسة فكرية أخرى في بكين، بحسب التقرير، ترى ان سياسة"حافة الهاوية"النووية الإيرانية يمكن أن ان تستمر بلا عواقب جدية وان الولاياتالمتحدة ستمنع أية مواجهة عسكرية."والى حد كبير تدعم هذا الرأي شركات النفط والغاز التابعة للدولة وأنصارها في الحكومة ممن يعتبرون ان أمن الطاقة مسألة ملحة لهم تهمهم أكثر من نشاطات إيران النووية". فمصالح هذه الشركات والصناعات الكبرى التابعة للدولة، سيما في قطاع الطاقة،"هي التي تلعب الدور الرائد في صنع السياسة نحو إيران". لكن الصين تتلقى 11.4 في المئة من النفط الخام من إيران مما يجعل إيران ثالث أهم مصدر نفطي لها بعد المملكة العربية السعودية وانغولا. وبحسب التقرير، فقد عبّرت السعودية ودول خليجية أخرى للصين عن قلقها من امتلاك إيران قدرات نووية وخوف هذه الدول من الوقوع بين فكي كماشة إسرائيل النووية وإيران النووية. أما الصين فتتظاهر بأنها لم تسمع، أو انها لا ترى حاجة الى الإصغاء. ما اقترحته الولاياتالمتحدة منذ 2009، بحسب التقرير، هو ان تزيد السعودية"كوتا"صادراتها النفطية للصين، لكن الصين ترددت في البداية، لكنها ما لبثت ان وافقت على مساع أميركية أسفرت عن"زيادة وارداتها النفطية من دولة الإمارات من 50 ألف برميل يومياًَ الى 200 ألف برميل مع منتصف 2010، إضافة الى زيادة العراق والكويت والسعودية صادراتها الى الصين لعام 2010 بحوالى 100 في المئة و50 في المئة و12 في المئة على التوالي."الفكرة الأساسية حملتها معها هيلاري كلينتون في زيارتها الأخيرة لتبرز اهتمام الولاياتالمتحدة بمواقف عربية كهذه". انما النفط وحده لن يقنع المدرسة الفكرية الصينية المتجاهلة لأخطار تحوّل المنطقة الى منطقة سباق نووي، فهذه المدرسة تقلل من الخطر لأن الأمر يفيدها. الأمر يتطلب تبني استراتيجية جماعية لدول الخليج تبرز مخاوفها من مخاطر السماح لإيران بأن تتحول الى قوة نووية، لعرض هذه المخاوف على الصين والاصرار عليها. شركات الصناعات العسكرية والنفطية في الصين تعتقد ان في وسعها لعب الأوراق بلا محاسبة، غطرسة منها أو كرهاً بالغرب أو استهتاراً بقدرة العرب على توحيد موقفهم. وقد حان الوقت لإيقاظها تجنباً للمواجهات العسكرية وحتى للعقوبات. فإذا عقدت الصين، وروسيا معها، العزم على إبلاغ إيران رسالة جافة بأنهما لن تسمحا لها بالتلاعب بالورقة النووية، لتمكنتا من إنجاح التمنيات بترغيب إيران بالتوقف عن التعنت والمكابرة والعمل على أن تصبح، كأمر واقع، دولة نووية داخل ديكتاتورية عسكرية تقمع الداخل وتهيمن على الجيرة بتدخل مباشر وغير مباشر وبلعبة تؤجج الطائفية الخطيرة. نشر في العدد: 17122 ت.م: 19-02-2010 ص: 11 ط: الرياض