سهواً أو عمداً، تلبي مواقف الوكالة الدولية للطاقة الذرية تجاه الملف النووي الايراني الهدفين الرئيسيين للجمهورية الاسلامية، وهما: شراء الوقت فيما تستمر طهران بتخصيب اليورانيوم، وتعطيل مجلس الأمن عن عقوبات اضافية على ايران من خلال سحب الملف النووي من مجلس الأمن في نيويورك وإعادته الى موقع الوكالة في فيينا. خطورة الدور الذي تلعبه الوكالة الدولية ومديرها العام الدكتور محمد البرادعي لا تنحصر في إفرازات الانحناء أمام استراتيجية ايرانية قوامها المماطلة والتعطيل والمضي بطموحات نووية ذات علاقة بتطلعات هيمنة اقليمية. ان الخطر يكمن في احتمال استفزاز يكون رداً عكسياً للجهود التوفيقية التي تتمناها الوكالة ومديرها العام يتمثل في التعجيل بإجراءات عسكرية لإيقاف طهران عن مساعيها النووية ولقطع الطريق على غاياتها الرئيسية. لذلك، يُستحسن أن يتوقف الدكتور البرادعي عن دعم موقف حكومة الرئيس محمود أحمدي نجاد ومرشد الجمهورية الاسلامية علي خامنئي الرافض قطعاً تلبية مطالب القرارات الدولية القاضية ب"تعليق"تخصيب اليورانيوم مهما كان له من تحفظات أو مآخذ على هذا المطلب. فلا يجوز، تحت أي ظرف كان، أن يناقض المدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية قرارات ومطالب مجلس الأمن الدولي، أو أن يشجع أية دولة على رفض الاذعان للقرارات وعلى القفز عليها. ثم ان البرادعي، ابن مصر الحائز على جائزة"نوبل"للسلام، لا بد يعلم بخفايا السياسة الايرانية الاقليمية، لا سيما نحو العراق وفلسطين ولبنان، والقائمة على تمويل وتسليح الميليشيات ضد الدولة وعلى إضعاف السلطة الفلسطينية الشرعية، وعليه الكف عن حصر المسألة الايرانية في المعادلة الاميركية - الايرانية وكأنه ينتقم للعراق في ايران. فهو أذكى بكثير من ترك نفسه منزلقاً في تقنين المسألة الايرانية أميركياً، وهو أوعى بكثير لمخاطر السماح لايران بامتلاك الوقت وهي تتلاعب بالقدرات النووية وبالأوراق التخريبية في القضايا العربية الرئيسية. فإذا شاء البرادعي أن يلعب دوراً تاريخياً في المسألة الايرانية، من المفيد له وللعلاقة الايرانيةبالولاياتالمتحدة وبالمنطقة العربية أن يحجب عن طهران أدوات المماطلة وأن ينصحها بالتجاوب مع دعوات التحاور والكف عن استراتيجية المحاور التخريبية. بالتأكيد، ان الدكتور البرادعي ينطلق في مواقفه نحو الملف النووي الايراني من رغبته بمعالجة ديبلوماسية وسياسية للخلافات وتجنيب المنطقة مغامرة عسكرية أخرى على نسق المغامرة الأميركية في العراق. فهو رافق كامل تفاصيل العد العكسي الى الحرب الأميركية في العراق بما فيها محاولات استخدام واشنطن للقرارات الدولية والوكالة الدولية ولجنة"انموفيك"المكلفة بتجريد العراق من أسلحة الدمار الشامل، وكذلك لجوئها الى الفبركة وتزوير الأدلة في بعض الحالات. وهو يعارض، كمبدأ ومسؤولية، أنماط معالجة الأزمات والشكوك في حيازة الدول قدرات نووية بالطرق العسكرية. وبهذا، انه محق كامل الحق، وله كل التقدير على هذه المواقف. لكن المشكلة الآن هي ان البرادعي ليس مقتنعاً بصحة القرارات الصادرة عن ايران والتي وضعت كنقطة انطلاق، شرط"تعليق"ايران لتخصيب اليورانيوم الذي يمكن استخدامه في برامج نووية سلمية أو في برامج نووية عسكرية. فهو ينظر الى ذلك الشرط بأنه خطأ ارتكبه أعضاء مجلس الأمن، بمن فيهم الدول الدائمة العضوية، الولاياتالمتحدة وفرنسا وبريطانياوروسيا والصين. وهو عمل، منذ فترة، على"تصحيح"الخطأ والإعوجاج باحثاً عن صيغة تؤدي الى تفكيك الأمر الواقع لقرارات مجلس الأمن التي اعتمدت ذلك الشرط. وهو بذلك مخطئ تماماً مهما برر ذلك بأنه لطالما ذهبت قرارات لمجلس الأمن بلا تلبية لها. مذكرة التفاهم التي وقعتها الوكالة الدولية للطاقة الذرية مع الجمهورية الاسلامية في ايران أخيراً تتجاهل تماماً ناحية مطالبة مجلس الأمن تعليق التخصيب لليورانيوم. بهذا الموقف، تتجاوز الوكالة الدولية قرارات مجلس الأمن الدولي وتتجاهلها في مواقف تعكس مواقف مديرها العام محمد البرادعي من مسألة تعليق تخصيب اليورانيوم. وهذا تطور ليس في مصلحة الوكالة الدولية بل هو مضر لها ولمديرها العام. انه سابقة لن تتمكن الدول الأوروبية ولا الولاياتالمتحدة من هضمها بل قد تؤدي الى ردود عكسية. فمقابل مجرد"تعليق"تخصيب اليورانيوم، قدم مجلس الأمن الدولي الى ايران رزمة مكافآت تشمل الحوار الثنائي الأميركي - الايراني، واستعداد الولاياتالمتحدة والدول الأوروبية لتقديم المساعدات في بناء نظام الأجهزة النووية السلمية، وحوافز ترغيب بالتعاون تشكل نقلة نوعية في العلاقة الايرانية مع أوروبا والولاياتالمتحدة. لذلك، ان تعاطف محمد البرادعي مع الامتعاض الايراني من تصنيف الرئيس الأميركي جورج بوش لايران في"محور الشر"لا يتطلب منه صوغ سياسة دولية جديدة تفرض علاقة ثنائية اميركية - ايرانية مختلفة. ومحاولاته الرامية الى صنع تلك العلاقة المرجوة تدخل، واقعياً، في خانة إجبار الولاياتالمتحدة على القبول بالنظام الايراني والتعهد بعدم اطاحته. وهذا، حقيقة وصراحة، ليس من شأن المدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية، مهما تضخمت الرغبة لديه بمثل هذا الدور. والسبب انه مقيّد بواجباته ومسؤولياته المهنية المحصورة بمنصبه، فيما أن ما يتحكم بالعلاقة الأميركية - الايرانية ليس الملف النووي حصراً وانما هو أيضاً الأدوار الايرانية الاقليمية. ثم ان رزمة الترغيب والمكافأة تتناول عنصر العلاقة الاميركية - الايرانية الثنائية، ولا حاجة الى إعادة اختراعها. فلو كان في وسع الدكتور محمد البرادعي ان يتجاوز منصبه الرفيع المستوى وأن يتناول الملفات الايرانية الاقليمية، لكان مرحباً جداً بدور فعّال وجريء له يطالب فيه طهران بعدم التدخل في القرار الفلسطيني وبالكف عن استخدام المعاناة الفلسطينية سلعة في مهاترات احمدي نجاد وفي تعزيز قدرات"حماس"للاطاحة بالسلطة الفلسطينية. لو كان ضمن صلاحياته اتخاذ مواقف كهذه، لكان الدكتور البرادعي مطالباً بأن يوضح مواقفه نحو تمويل طهران ل"حزب الله"في لبنان ومده بالأسلحة والصواريخ - عبر سورية - للاطاحة بالحكومة اللبنانية المنتخبة شرعياً ولتوطيد قيام دولة داخل دولة بميليشيات طالبت القرارات الصادرة عن مجلس الأمن بتفكيكها. ولو كانت صلاحيات البرادعي تسمح له باتخاذ مثل هذه المواقف، لربما تحدث مع القيادة الايرانية بلغة حاسمة في ما يخص سياساتها القائمة على تغذية الطائفية المميتة في العراق. ولربما أيضاً تمكن المدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية من إقناع حكم الملالي في طهران بإيقاف رجال صيانة الأخلاق عن التنكيل بالنساء واقناع أجهزة الحرس الثوري بالسماح لايران بالعودة الى الحياة الطبيعية والتوقف عن تصدير التطرف ودعم الإرهاب والتخويف للاستبداد بالحكم والسلطة. كل هذا ليس من شغل المدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية. أشغاله، رسمياً، تنحصر في النواحي النووية. وبالتالي، ان التحفظات الأوروبية - وليس الأميركية فقط - على مذكرة التفاهم التي وقعتها الوكالة الدولية مع الحكومة الايرانية، تستحق التدقيق في أسباب المساءلة. محمود أحمدي نجاد اتخذ من مذكرة التفاهم عذراً وسبباً للاعلان بأن ملف ايران النووي مع الوكالة الدولية"قد أغلق"، وقال ان بلاده"أصبحت دولة نووية تملك التكنولوجيا والدورة الكاملة للوقود النووي"مكرراً ان هذا الانجاز لا تراجع عنه ولا مكان لوقف عمليات تخصيب اليورانيوم. هذا الاتفاق المبدئي بين طهران والوكالة تضمن استخدام تعبير"الحل التام"لمسألة التجارب على مادة البلوتونيوم المزدوجة الاستخدام، الأمر الذي أثار انتقادات أوروبية وأدى الى مطالبة بريطانيا وفرنسا والمانيا وكذلك الولاياتالمتحدة للبرادعي باستخدام لغة أقل تهاوناً مع ايران وتماشياً معها. انما ما أثار استياء هذه الدول أكثر هو ذلك"الجدول الزمني"الذي تجاوب مع استراتيجية ايران لدفع الأمور حتى نهاية السنة في مماطلة هدفها الأساسي قطع الطريق في مجلس الأمن الدولي على قرار جديد يفرض عقوبات اضافية على طهران، نتيجة رفضها الاذعان لمطالب مجلس الأمن، وأولها تعليق تخصيب اليورانيوم. فلقد دخلت الوكالة الدولية ومديرها العام طرفاً مع ايران في محاولة كسر وتقويض الاجماع الذي سيّر القرارات نحو طهران، وان على مضض. ذلك أن روسيا والصين تحاولان تكراراً التملص من ذلك الاجماع الذي فرضته عليهما المواقف والتصرفات الايرانية. وها أتت الوكالة ومديرها العام رافعة راية الانقاذ، عبر مذكرة التفاهم، لتعطيل الدفع نحو عقوبات اضافية ولسحب الملف من مجلس الأمن في نيويورك لإعادته الى الوكالة الدولية في فيينا حيث لا محاسبة ولا عقوبات على المماطلة والمضي بالنشاطات النووية وبتحدي القرارات الدولية. الرئيس الفرنسي الجديد، نيكولا ساركوزي، محق تماماً في قوله ان الوهن في الاصرار الدولي على التزام طهران بالقرارات الدولية سيؤدي اما الى امتلاك ايران للقنبلة النووية أو الى قصف ايران عسكرياً. ومن المفيد لكل المعنيين بالملف الايراني التمعن الدقيق في فحوى وخلفية وأسباب تصريح كهذا للرئيس الفرنسي الأكثر قرباً من التفكير الأميركي في الخيارات الأميركية نحو ايران. من المفيد لجميع المعنيين، وعلى رأسهم الوكالة الدولية للطاقة الذرية، ان يبقوا شركاء لمجلس الأمن، وليس أن يصبحوا منافسين له، في الدفع بالجمهورية الاسلامية الى العقلانية. فمجلس الأمن سيفرض عقوبات اضافية إذا استمر التعنت الايراني، مهما كابرت روسيا والصين وحاولتا التعطيل. وإذا أصرتا وقررتا الخروج عن الاجماع والتراجع عن التزاماتهما الدولية، فالولاياتالمتحدة لن تكون بمفردها هذه المرة في مواجهة ايران عسكرياً إذا اضطرت لذلك. فملف ايران ليس عائداً حصراً الى الوكالة الدولية في فيينا تحت أي ظرف كان. واستراتيجية ايران القائمة على الاستفادة من الفسحات الزمنية التي تشتريها بليونة هنا وخطوات تعاون جزئي هناك، هذه الاستراتيجية لن تكفل لطهران التملص من الاستحقاقات، كما لن تأتي على الوكالة الدولية بالاطراء عليها لشراكتها مع طهران في المماطلة. فمن واجبات الوكالة، وصلاحياتها ايضاً، أن تقطع الطريق على استخدامها لشراء الوقت سيما وأن الزمن، في هذه الحالات، قد يحرض على المواجهة. الاحتجاج ليس على أسلوب الخطوة بخطوة ولا هو على وضع برنامج زمني لحل المسائل العالقة بحلول كانون الأول ديسمبر، كما ينص الاتفاق. وبالتأكيد، ان الاحتجاج ليس على منطق الوكالة الدولية ومديرها العام القائم على ضرورة تجنب المعالجة العسكرية والاصرار على بذل كل الجهود من أجل المعالجة الديبلوماسية والسياسية لأزمات الملفات النووية. ان الاحتجاج يصب قطعاً في خانة التجاهل، سهواً أو عمداً، لمعنى وفحوى المواقف والأساليب الايرانية ولانحراف الوكالة الدولية الى علاقة مريبة مع الجمهورية الاسلامية تنتقص من العلاقة المهنية بين الوكالة الدولية للطاقة الذرية وبين مجلس الأمن الدولي. وإذا كانت الوكالة الدولية والمدير العام محمد البرادعي عازمين حقاً على منع تحوّل منطقة الشرق الأوسط الى ساحة يتسابق على امتلاك القدرات النووية العسكرية أو ساحة حروب لمنع دول معينة من امتلاك الأسلحة النووية، عليهما تملك الكثير من الجرأة والعزم والاقدام لطرح القدرات النووية العسكرية الاسرائيلية على طاولة البحث بجدية. فليس كافياً الاطلالة بين الحين والآخر على هذا الملف الصعب لمجرد رفع العتب. المطلوب استراتيجية واضحة وعلنية وخلاقة وواقعية يفرضها الدكتور البرادعي على الساحة الدولية لتناول امتلاك اسرائيل القنبلة الذرية. هكذا يخدم تحويل منطقة الشرق الأوسط الى منطقة خالية من السلاح المحظور، وليس بالتعاون مع ايران تغطية على تقصير الوكالة الدولية في مواجهة اسرائيل تجنباً لمواجهة مع الولاياتالمتحدة الأميركية. لا شك على الاطلاق بحسن نيات وبقدرات المدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية، فهو رجل استحق ويستحق جائزة"نوبل"للسلام وهو فوق الشبهات والاتهامات. لكن هذا لا ينفي صحة النقد والانتقاد لسياسات يتبناها تساهم، سهواً أو عمداً، في تشجيع ايران على تجاوزات خطيرة. فهذه طموحات ومخططات نووية واقليمية تستحق وتستدعي مواقف للبرادعي غير تلك التي يتخذها نحو طهران بكثير، بل بافراط، من حسن النية. فالنظرة الشمولية ضرورية، انما مهماته، في نهاية الأمر، تنحصر باجراءات تدخل حصراً في المراقبة النووية بشراكة مع مجلس الأمن الدولي وليس بإملاء تصور للعلاقات الثنائية للدول ولا باصدار تأشيرة هروب من الاستحقاقات والعقاب لتجاوزاتها. انه، بذلك، يغامر بدفع الأمور الى المواجهة نفسها التي يريد أن يتجنبها. ان الحذر في محله.